فلسطين أون لاين

​يزن تعالَ أحدثك عن الحبيبة قليلًا

...
غزة - فاطمة أبو حية

أن تروي طفلةٌ تدرس في الصف الأول الابتدائي حكايةً قصيرة لأخيها الصغير الذي لا يزيد عمره على العام هذا سيبدو غريبًا بعض الشيء، لكني بحاجةٍ لأن أبوح لك يا يزن، حتى لو لم تفهم كلامي الآن.

كانت ولادتك قد أضفت بهجة جديدة على الدار يا يزن، مناغاتنا لك وصوت ضحكاتك معنا لم يمض عليهما سوى ثلاثة أشهر، لكن سرعان ما تبدل الحال، وحلّ الحزن ضيفًا ثقيلًا علينا، فالتيار الكهربائي الذي يزهد في إنارة بيوتنا ارتكب جريمة في ساعات وصله القليلة، لقد أخذ أمنا، حين أصابتها صعقة كهربائية حوّلت حياتها معنا إلى مجموعة من الذكريات.

لم يكن لك _يا صغيري_ ذكريات كثيرة معها، لم تتعرف إليها من قرب، لم يحالفك الحظ في أن تردد على مسامعها في بداية رمضان: "كل عام وأنتِ بخير يا ماما"، لم تر كيف كانت تقضي يومها الرمضاني، تحثنا فيه على العمل الصالح، وتعرّفنا إلى الخيرات، وفي أيام الشهر الأخيرة نسعد باستعداداتها لعيد الفطر.

دعني _يا يزن_ أخبركَ ببعض أوجه تلك الأجواء الرمضانية التي لم تعشها، لم يكن اليوم الرمضاني مختلفًا كثيرًا عن غيره من الأيام فيما يتعلق باحتياجات الأسرة، لكنه كان يشهد من أمي المزيد من التعبد، أضف إلى ذلك أنها كانت تحثّنا على كل ما هو صالح في تلك الأيام.

كانت "ست الحبايب" تؤدي أعمالها البيتية على أكمل وجه، وكنت أنا وليان ومحمد، وأختنا سوزان التي رحلت مبكرًا كثيرًا ما نثير غضبها بـ"شقاوتنا"، وإذا فرغت من هذه الأعمال انتقلت إلى العبادة، صلاةً وتلاوة قرآن.

في هذا العام سأصوم "صوم العصفورة"، ولم أكن أفعل ذلك حتى رمضان الماضي، لكن سوزان في عاميها الأخيرين كانت تصوم حتى الظهيرة بتوجيهات من أمي، لأنها كانت أكبرنا وسنّها كانت مناسبة لبدء تعويدها الصيام.

كانت "ماما" تخصص لي ولأخواتي ملابس صلاة لكل منا، كي نصلي معها.

الزيارات الرمضانية والولائم كذلك كانت عادة لا تغفلها أمي، تقوم بها على أكمل وجه، فتزور أهلها وأهل أبي، وإخوتها وإخوته، وتستقبلهم في بيتنا برحابة صدر، كانت تدعوهم إلى ولائم تعدّها لأجلهم بطيب نفس، وتلبي دعواتهم لولائم مشابهة، ولاشك أننا كنا نرافقها في كل زيارتها، ولم تكن تفوّت الفرصة لتستفيد من هذه العلاقات الاجتماعية الجيّدة في تعلمينا صلة الرحم، وتأكيد لنا ضرورة التزامنا بتأدية حقوق أقاربنا.

تمامًا كما أنك لا تعرف أمي أنت لا تعرف أختنا الكبرى سوزان، أزاح عنها قدرها عبء تلقي فاجعة رحيل "ماما"، فقد توفيت قبلها إثر سقوطها من شرفة المنزل، عندما كانت في السابعة من عمرها.

حبيبي يزن، الأيام الأخيرة في رمضان كانت مميزة عندنا، ففيها تستعد أمي لعيد الفطر، ونحن الصغار لا يهمنا من ذلك سوى ملابسنا الجديدة وحلوى العيد اللذيذة، كنا نطلب منها كل ما نرغب أن يتوافر لنا في أيام العيد الثلاثة، كانت تستخدم طلباتنا هذه لدفعنا نحو الالتزام بتعليماتها لنكون الأفضل دومًا، لكن لا أخفيك سرًّا، لقد كانت في نهاية المطاف تشتري لنا كل ما نطلب، سواء التزمنا بما أرادته أم لم نلتزم.

بعد قبلة الصباح في أول أيام العيد كنّا نرافق "ماما ميساء" إلى الصلاة، ثم نكمل يومنا محتفلين بالفطر بملابسنا الجديدة، والعيدية، والحلوى.

يزن، كل ما حدثتك عنه انتهى بنهاية عيد الفطر من العام الماضي، حتى إنه لم يمتد ليشمل الأضحى أيضًا، أمضيناه دونها، وها نحن ندخل رمضاننا الأول بلا حبيبتنا، فالصعقة الكهربائية سرقت أمنا وتاج رأسنا وهي في ريعان شبابها، وكنا نحن صغارًا لا نرى في الدنيا سواها، كانت هي في الرابعة والعشرين من عمرها، أما أنا سمر فكنت في الخامسة، وليان في الثالثة، أما محمد فلم يكن قد أكمل عامه الثاني بعد.