فلسطين أون لاين

زهرةٌ رمضانية (17-20)

...
بقلم الأسير: سامح سمير الشوبكي - سجن ريمون الصحراوي

17) شماتة

قال التابعي يحيى الرازي (رحمه الله): "عجبتُ لذي عقل يقول في دعائه: "اللهم لا تُشمت بي الأعداء"، ثمّ يشُمت بنفسه كلَّ عدو، قيل: "وكيف ذلك يا يحيى؟"، قال: "يعصي الله فيشمت به في الدنيا والآخرة كل عدو".

رحمك الله أخانا يحيى وكأنك تنظر إلينا، إلى أحوالنا، وتوجه كلامك الاستنكاري هذا لنا، فلسطينيين وعربًا ومسلمين، وقد وقع المحظور فعلًا، وشمت بنا الأعداء، شمتوا وأي شماتة، شمتوا وعصينا يا يحيى، وأي خطيئة ارتكبنا عندما تجرأ الكثير على المعصية الأكثر فتكًا بالمجتمعات، المعصية القتالة التي تصيب العمود الفقري للمجتمعات البشرية، فتصل بها إلى العطب والشلل، المعصية التي تمثل الفرحة الكبرى والسرور الغامر لأعدائنا وخصومنا المتربصين، أقزام الزمان وخفافيش الظلام!

إننا نتحدث عن معصية الخصومة والفرقة والشقاق، فكم من شخص يقاطع أمه وأباه وأخته وأخاه لأتفه الأسباب! كم من زوج يتنمر على زوجته ويذيقها أصناف النكال! كم من جارٍ يعيش النزاع والخلاف مع جاره بسبب الأطفال يلعبون ويلهون! كم من دماء سُفكت بسبب الإرث والميراث والتوغل على حقوق الناس! كم من أشلاء آدمية تطايرت في شوارعنا وأسواقنا ومساجدنا العربية بذريعة الموالاة والمعارضة والعكس! وكم من بلاد تعيش الآن الانتقام والتجزئة والشرذمة والتشظي بسبب الأفكار المتنافرة! وما زلنا يا يحيى بعد كل هذا نقف بين يدي الله (تبارك وتعالى) نقول: "إلهنا وجاهنا ومولانا لا تُشمت بنا الأعداء"!

في شهر رمضان الأُلفة دعونا نقهر ونهزم المعصية والأعادي الفرحين؛ بالتصالح النفسي والعائلي والمجتمعي والوطني.

18) فاكهة الكلام

كثيرة هي الآراء والأفكار الصحيحة والرائعة التي نرفضها بشدة؛ لأنها ببساطة قيلت وقُدمت لنا بطريقة خطأ أو متبجحة وغليظة، بمعنى آخر أسقطت علينا إسقاطًا دون مراعاة الظرف والمكان والحالة النفسية التي نكون فيها وعليها، فكيف إذا كانت هذه الآراء والأفكار التي توجه إلينا غير صحيحة ولا هي سليمة ومغلوطة وتنافي الوقائع والحقائق، ثم يأتي من يحاول فرضها وإلزامنا بها إلزامًا؟! وهذا يكون في العائلة، في الشارع، في المؤسسات والتجمعات والمجتمع ككل، هنا تكون الطامة الكبرى؛ لأن هذا السلوك بالضبط هو مفتاح الشرور بين الناس ومبدأ الخلاف بينهم، لأنه عندما يأتي الحديث والكلام والخطاب حاملًا معه مفردات التأنيب والاتهام والتشكيك ثم الهمز واللمز وصولًا إلى الطعن، هنا تحديدًا يضيق الصدر وتتسارع النبضات ويفور دم القلب طلبًا للانتقام.

لذلك إن الكلمة لها مكانة رفيعة وخطرة في دين الله تبارك وتعالى، وقد جاءت توجيهات الإسلام العظيم قرآنًا مباركًا وسنة عطرة؛ للتشديد على الكلمة: لماذا نقولها؟ وكيف نقولها؟ ومتى نصمت؟ وما أعذب ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين قال: "والله لولا أن أجلس مع إخوة لي ينتقون أطايب القول كما تنتقى أطايب الثمر، لأحببت أن ألحق بالله الآن"!

في شهر رمضان شهر اللين والرفق دعونا ننتقِ فاكهة الكلام ومحاسنه جيدًا.

19) الزمن والحب

ثنائية يعرفها جيدًا أصحاب القضايا أينما كانوا في هذا العالم، وهنا -أعزائي- خلف جدران الاعتقال الخرساء يوجد قوم منكم من أبنائكم يلمسون الزمن بأيديهم، يغازلهم ويغازلونه، يشاغبهم ويشاغبونه، قومٌ جمعت بينهم وبين زمنهم علاقة الصديق اللدود والرفيق الخصم والأخ العدو عندما نزلت عليهم مقولة حكيم الحياة الذي قال: "الزمن بطيء جدًّا لمن ينتظر، سريع جدًّا لمن يخشى، طويل جدًّا لمن يتألم، قصير جدًّا لمن يحتفل، ولكنه الأبدية والخلود لمن يحب".

نعم، الزمن هنا بطيء جدًّا لمن ينتظر لقاء الخلان بعد غياب، وهو سريع جدًّا عندما يحمل خبر فقد الأحبة الذين رحلوا دون وداع أخير، والزمن هنا طويل جدًّا لمن يتألم عنف الصدام بين السجان وأدواته القمعية والأجساد النحيلة التي تنتج نفسها في كل مواجهة متجددة، والزمن هنا قصير جدًّا لمن يحتفل لحظة الانتصارات الصغيرة والمكثفة في آن عند تبادل الآراء بين ألوان الطيف الفلسطيني بلا قلق ولا وجل، بل بكل يقين بأن تصادم الأفكار المختلفة هو صاعق التجديد في حالة الأمة التي تنشد خلع الثياب البالية، وهنا يتحول الزمن إلى صوت أذان يتردد صداه في الزنازين التي تقتضّ بلا رياء بالراكعين الساجدين والواثقين وهم يهتفون: "اللهم خذ من أعمارنا حتى ترضى"، عندئذ تعيش فلسطين الأسيرة أبدية الحب لأبنائها وبناتها المشردين في القارات الخمس، وهي على يقين بأن وعد الله حق، مهما طال الزمن أو كثر.

في شهر رمضان الزمن الجميل نهدي إلى فلسطين المحبة الأبدية.

(20) عِتْقٌ وعِتْق

هكذا هي الأوقات الثمينة تمر مر السحاب، وتنقلب تقلب الأمواج في البحار، عشرون يومًا انسحبت من أعمارنا لا تشبه الأيام، هي أيام الموسم السنوي الرباني الذي يجمع أهل السماء المسبحين مع أهل الأرض المستغفرين الراجين بصيامهم الرحمة والمغفرة.

ونحن إذ نضع القدم في العشر الأواخر من رمضان العمل الدؤوب على كل المخلصين السالكين إلى الله الدعوة إلى النفير العام، وإعلان حالة الطوارئ القصوى، واستنهاض كل القوى والإمكانات في الجبهة الداخلية من أجل الظفر بالهدف الأسمى، والحصول على الجائزة التي لا تضاهيها جوائز، إنها جائزة الرضوان والعتق التي أكرم الله (تقدست أسماؤه) بها عباده في العشر الأواخر من شهركم المبارك، نسأل الله (تعالى) العِتقَ والعِتق، عتق أنفسنا وأهلينا والمسلمين والمسلمات من النار، ولفلسطين جميلة البلدان التي نعشق العتق من جور وظلم الاحتلال.

في العشر الأواخر من رمضاننا نقسم على الله أن يعتق رقابنا من شرور الدنيا ونيران الآخرة.