فلسطين أون لاين

​ثلاثة أيام في السجن.. (4)

...
يكتبها/ م. عيسى الجعبري- وزير الحكم المحلي الأسبق

انطلقت بي سيارة البوسطة قريبًا من غروب الشمس نحو سجن (مجدّو) في شمال فلسطين، ووُضِعتُ في الزنزانة التي فيها، وهي غرفة حديدية صغيرة معتمة، فيها كرسيان اثنان إذا جلس فيها أسيران ضاقت بهما، ولهذه الزنزانة شباكان صغيران، أحدهما لداخل السيارة والآخر لخارجها، ولكنهما مغلقان بلوح من الحديد فيه ثقوبٌ قطر الواحد منها نحو نصف سنتيمتر، لا تكفي سوى لإدخال قليل من الضوء لا يكفيك لترى أبعد من يديك، وقليل من الهواء يكفيك بالكاد لتتنفس، ورغم ذلك فهم يغلقون الشباك الداخلي بستارة والخارجي بزجاج السيارة.

انطلقت بي زنزانتي المتحركة تذرع الأرض، ولعلها احتاجت نحو الساعتين لتصل مقصدها، وهناك –أمام سجن (مجدّو) الذي لم أدخله منذ سنة 1996– وقفت وأُنزِلتُ منها، لأِمُرَّ بالإجراءات المعتادة لدخول السجن: التفتيش الشخصي، وتفتيش الأغراض التي أحملها معي، والتشخيص، وتصويري لإعداد (بطاقة سجين) عليها صورتي ومعلوماتي، والفحص الطبي الذي أجراه ممرض لأن الطبيب لم يكن موجودًا، ثم الانتقال إلى القسم الذي سأقضي فيه ليلتي.

في سجن (مجدّو) يوجد (معبر) يُستقبَل فيه القادمون الجدد والأسرى الآتون من سجون أخرى لحضور جلسات المحاكمات في معسكر (سالم) القريب من هنا، ولمقابلة مسؤولي المخابرات في المناطق، وقد جرت العادة منذ مدة أن يتم إخراج كل أسير من منطقة الشمال اقترب موعد إفراجه لمقابلة ضابط منطقته، ولذلك فهذا المعبر مليء بشكل دائم.

دخلنا المعبر، وكان في قسم (6)، وقد علمت ممن هناك أن المعبر الأصلي موجود في قسم (10)، غير أن هناك تصليحات تتم فيه، ولذلك تم نقله إلى قسم (6) بشكل مؤقت، وقسم (6) يعيش فيه أسرى حركة فتح، وفيه بعض الأسرى من الجهاد، أما أسرى حماس فهم موجودون في قسمي (1) و(8) فيما علمت.

تم إدخالي الغرفة رقم (7) وذلك نحو الساعة الحادية عشرة ليلًا، وكنت مرهقًا بشكل كبير، فقد قضيت جلَّ الوقت منذ اعتقالي حتى دخولي الغرفة مقيّدًا أنتقل من سيارة بوسطة إلى زنزانة إلى سيارة بوسطة، وقد عرض عليَّ الشباب الذين كانوا في الغرفة أن أتناول من الطعام الموجود، وهو عبارة عن ساندويشات يبقونها من طعام الغداء تحسبًا لقدوم أسير جديد، إذ ليس في الغرفة ما هو موجود في غرف السجن العادية من طعام وأدوات لتحضيره، ولكني –ورغم كوني لم آكل طوال النهار سوى علبة لبنٍ رائبٍ صغيرة– كنت مرهقًا لدرجة أني لم أكن أرغب إلا بأداء صلاتي المغرب والعشاء، ثم الخلود للنوم.

استيقظت لصلاة الفجر، وقد بدأ النور ينتشر في الأفق قبل طلوع الشمس، ويبدو أن الغرفة التي كان فيها (10) أسرى غيري لم يُصلِّ فيها الفجر سواي واثنين آخرين، وقد صلى كل واحد منا منفردًا، ثم عدت وحاولت النوم فلم أستطع.

وعندما تم فتح الفورة، نحو الساعة السابعة صباحًا حملت مصحفي وخرجت لساحة القسم، وكان فيها الأسرى الخارجون إلى المحاكم والمقابلات، وعمال (المردوان)، ورأيت في الساحة وأنا نازل من درج الطابق الثاني الأخ بكر أبو ربيع (أبو عبيدة) فاستغربت وجوده هنا، وفوجئ هو برؤيتي، إذ كان قد ودَّعني عندما أفرج عني من قسم (3) في سجن النقب قبل (9) أشهر.

الأخ (أبو عبيدة) من مدينة (الناصرة)، عمره نحو (50) عامًا، وهو محكوم بالسجن (20) عامًا، قضاها كلها وبقي منها شهران اثنان فقط، وقد علمت أنه هنا لمقابلة ضابط منطقته قبل الإفراج عنه، وكنت قد التقيت به وتعرفت عليه في سجنتي الأخيرة في سجن النقب، وكان برشه مقابل برشي، رغم ألم السجن وقهره إلا أن رؤية المرء بعض إخوانه ومعارفه يخفف عليه من ذلك، وقد سعدت بلقاء الأخ أبي عبيدة والحديث معه، وأسأل الله تعالى أن يعجل بفرجه ويحفظه ويرده إلى أهله سالمًا.

خلال وجودي في ذلك القسم، وهو تابع لفتح كما أسلفت كان استقبال الإخوة المسؤولين عن القسم لي جيدًا لطيفًا، وخصوصًا الأخ مراد المتحدث باسم أسرى ذلك القسم (دوبير القسم) والأخ أمجد موجه عام فتح في سجن (مجدو)، وقد طلبت منهم التسريع بنقلي إلى قسم (8) حيث يوجد كثير من إخواني ومعارفي، فوعدوا بأن يتم ترتيب ذلك مع الإدارة خلال هذا اليوم.

استُدعيتُ بعدها لعيادة السجن ليفحصني طبيب السجن ويَطَّلِعَ على ملفّي، وخصوصًا أنني أعاني من أمراض مزمنة عديدة، منها السكري والضغط والنقرس وزيادة الكوليسترول والديسك، وأتناول عدة أنواع من الأدوية بشكل دائم، وبعد الفحص وإجراء تخطيط للقلب، أجرى تحديثًا على ملفي الطبي الموجود مسبقًا عندهم على الحاسوب من السجنات الماضية.

وقبيل صلاة العصر تم نقلي إلى قسم (8)، حيث وجدت الاستقبال الحارَّ الودود من إخواني هناك، وكان عدد من الشباب يلعبون كرة الطائرة في ساحة القسم، والتي لا تزيد مساحتها على المساحة اللازمة للعبتهم إلا قليلًا، فجلست والإخوة الذين استقبلوني في زاوية من زوايا الساحة، وكان الإخوة من المشايخ الأفاضل يأتون تباعًا من غرفهم للتسليم عليَّ والترحيب بي، وكنت ألحظ في عيونهم الأسف لتعرضي للاعتقال مرة أخرى.

أغلب المشايخ الموجودين في القسم سبق لي الالتقاء بهم أكثر من مرة في السجنات السابقة، وكثير منهم لا أراه إلا في السجن، فالظروف في الخارج لا تتيح لنا تبادل الزيارات الاجتماعية إلا لمامًا، ونحن من مدن متفرقة، وسبحان الله، فرغم أن الجغرافيا وحواجز الاحتلال فرقتنا، إلا أن سجونه قد جمعتنا.

بقيت في الساحة مع إخواني حتى حان موعد إغلاق القسم ودخول كل الأسرى إلى غرفهم، وذلك نحو الساعة السادسة والنص مساءً، وكان الإخوة قد رتبوا أن أقيم في غرفة (1) غير أني علمت أنهم يريدون إخراج أحد الشباب منها لتسكيني فيها، فطلبت منهم أن لا يفعلوا، وقلت لهم أني مستعدٌ للسكن في أي غرفة، فكل الذين هنا إخواني، وأنا لا أقبل بأن يتم نقل أخ من غرفته التي هو مرتاح فيها لأجلي، فاستجاب الإخوة وجعلوا إقامتي في غرفة (12).

غرفة (12) التي قضيت فيها تلك الليلة كان فيها (9) من الشباب، منهم ثلاثة من طلبة كلية الهندسة في جامعة النجاح، وواحد من عرب الداخل من الدواعش المبايعين لأبي بكر البغدادي، وهؤلاء عادة يعيشون في أقسام حماس أو الجهاد تحت شروط تفرض عليهم الالتزام بالنظام العام وعدم الترويج لفكرهم وعدم المجاهرة بتكفير المسلمين حولهم، وقد لاحظت خلال وجودي تلك الساعات القليلة في الغرفة قبل النوم، وهي نحو (4) ساعات، أن هذا الشاب الداعشي البالغ نحو (28) عامًا من العمر كان يتابع فيلمًا أجنبيًّا على قناة إسرائيلية، وكان خلال ذلك يلعب الشطرنج مع أخ آخر، ويقوم بين الحين والحين لتدخين سيجارة عند شباك الغرفة.

كان الشاب الذين في الغرفة قد أعدّوا ضيافة لاستقبال العبد الفقير القادم إليهم، ورغم عدم معرفتي بأيٍّ منهم مسبقًا إلا أنك تشعر في تلك الأجواء بدفء الأخوة، فهي قلوب قد اجتمعت على محبة الله والتقت على طاعته وتوحدت على دعوته وتعاهدت على نصرة شريعته، ولا يضيرها أن يكون أصحابها من أماكن شتى وعوائل مختلفة، ففيهم من هو من الجنوب ومن هو من الشمال، وفيهم ابن المدينة مع ابن القرية مع ابن المخيم، لا يفرق بينهم شيء بفضل الله تعالى.

وقد جلسنا جلسة تعارف لطيفة، عرّف كل واحد منا بنفسه، ودار بيننا حوار أخوي جميل، شارك فيه أخونا الداعشي –هداه الله– وحدّثنا كيف اعتقل، وأنه مبايع للبغدادي على النت، وعلى فكرة فالشاب الداعشي هذا هو من أَمَّنا في الصلوات الثلاث التي شهدتها في الغرفة (المغرب والعشاء والفجر).

خلدتُ للنوم، ولم يكن اسمي قد أتى ضمن الذين لهم محاكم، إذ كان الأمير العام قد حاول ألا يتم إخراجي في البوسطة إلى عوفر، إلا أن اسمي جاء في الصباح للخروج في رحلة بوسطة كان المفترض استمرارها أسبوعًا، فخرجت في البوسطة، ولكنّ الله سلَّم من البقاء أسبوعًا.