فلسطين أون لاين

​طقوس رمضان تتوقّف بأَسْر الطفل شادي

...
القدس المحتلة / غزة - أسماء صرصور

"شادي: ماما اشتريتو عصير لوز؟، أمه: لا يا ماما، ما جبناه، شادي: ليش يا ماما، أمه: إنت إللي كنت تجيبه يا ماما، وخواتك ما بيحبوه، بطلنا نجيبه، شادي: والله نفسي يا ماما في عصير اللوز".

هذا الحوار الموجع دار بين أصغر أسير في العالم وأمّه في رمضان الماضي، الأسير المقدسي شادي فراح (13 عامًا) محكوم عليه بثلاث سنوات أسر، وخمس أخريات مع وقف التنفيذ، يغيب للعام الثاني على التوالي عن مشاركة عائلته في طقوس شهر رمضان، و"فلسطين" تنقل وجع الغياب في تقريرها.

شادي والمسحراتي

تقول والدة شادي: "أن يمر يوم من أيام رمضان دون وجود أحد أفراد الأسرة أمر مؤلم، فكيف إن كان الغائب صاحب الروح والطاقة والحيوية وصانع الجو شادي؟!"، مع تنهيدة وجع حملتها أسلاك الهاتف وسيلتنا الوحيدة للتواصل معها، مكملة: "كل أيامنا في رمضان الماضي كانت بكاء على المائدة، لأن كل شيء يذكرنا به".

من المواقف التي تستذكرها أن لشادي عمًّا يملك محلًّا لبيع الحمص والفلافل وعصائر التمر الهندي واللوز، كان شادي يذهب لمساعدة عمه في المحل، ثم يعود قبيل الإفطار وقد أحضر العصائر لمائدة عائلته، لكن مع غيابه في الأسر في رمضان الماضي خلت المائدة من كل ما يحبه هو، أو كان يحضره بنفسه.

ولا تنسى أن تحدثنا عن شادي والمسحراتي، فكان شادي في كل ليلة يسمع فيها صوت المسحراتي يصر ويلح على والدته، حتى توافق له على النزول معه كسبًا للأجر بإيقاظ الناس لتناول طعام السحور، تقول: "يترجاني مؤكدًا أنه لن يبتعد كثيرًا عن المنزل، ولا يتركني إلا بعد أن ينال الموافقة، فيذهب مسرعًا يرافق المسحراتي في جولته".

كأي أم تتحدث بفخر وحب عن ابنها، كان صوتها نابضًا بهذه المشاعر، ذكرت أن شادي الثاني في أولادها لكنه الذكر الأول، وهو ساعدها الأيمن في كل شيء، هو الأخ والصديق قبل الابن، مع أنه سيكمل عامه الثالث عشر هذا العام، الحنون على إخوته، ومهما طلبت منه "يركض" فورًا لتلبيته.

إذًا كيف رمضانك الأول دونه؟، هنا كأني نكأت جرحًا، أو أن الصمود تخلى عنها لحظة، فتهدج صوتها قليلًا، وهي تقول: "إذا اتصل بي وسألني ماذا أعددت من طعام؛ أخبره بأني لم أجهز شيئًا بعد"، مرجعة ذلك إلى رغبتها في ألا يشعر بالوجع وهو يقارن ما تأكله عائلته بما يأكله هو داخل السجن.

رنة الوجع علت وتيرتها في صوتها، وهي تتحدث عن "محشي ورق الدوالي (ورق العنب)" الأكلة المفضلة لشادي، فهي قاطعت في داخلها كل طعام يحبه شادي، لكنها تضطر بين الحين والآخر أن تجهزها لإخوته حتى لا يشعروا بأنهم مقيدون بسببه، عندها تموت ألف مرة مع كل "لفة" ورقة من ورقات الدوالي، وفي قلبها غصة أن شادي لن يأكل، ولو واحدة منها.

ملابس العيد

تعود بذاكرتها إلى ما قبل رمضان، إلى الاستعدادات التي كان شادي يصحبها فيها مع والده، لشراء الزينة وأغراض الشهر الفضيل من تمر وجبنة وعصائر، لكن الزمن لديها توقف عن الإحساس برمضان، لم تتسوق، لم تشتر الجبنة، ولا التمر، ولا أي شيء، كل الطقوس توقفت بغياب شادي عنها.

التقطت أنفاسها، مستجمعة قواها، لتتيه دقائق فخرًا بشادي، الذي شارك في رمضان الماضي في مسابقة داخل السجن لحفظ القرآن الكريم، مع أن القائمين عليها طلبوا منه إفساح المجال لغيره من كبار السن للمشاركة فيها، لكنه أصرّ أن يشارك فيها ليفوز بالمرتبة الأولى، كونه حفظ أكبر عدد من أجزاء القرآن الكريم وقتها.

في المحطة الأخيرة للقائي معها خارت قواها تمامًا، وبدا تمييز الكلمات صعبًا جدًّا، فمن بين دموعها عرفت أنه مع اقتراب عيد الفطر الماضي كانت مارة بالسوق، لفت انتباهها الأطفال برفقة عوائلهم وهم يشترون ملابس العيد، وأخذت تتذكر كيف كانت تشتري ملابس العيد لشادي وإخوته.

هنا لم تجد نفسها إلا بداخل أحد المحال، تطلب منه ملابس لطفل في سن الثانية عشرة، صاحب المحل رفض أن يعطيها، وهو يقول لها: "إن اليوم آخر أيام الشراء، وغدًا العيد، فكيف يمكن لك أن تبدلي الملابس في حال لم تكن مناسبة؟!"، طالبًا منها أن تعود وتحضر ابنها معها، ردت عليه: "من وين أجيبه؟!، قلي من وين؟!".

في نهاية المطاف اشترت له "بلوزة" وبنطال من النوع الذي يحب، وأرسلتهما له في السجن، كانت فرحة شادي توزاي فرحة والدته، فهي أثبتت له أنه _وإن كان بعيدًا عنها_ لا يزال في قلبها يسكن، وتتذكره بكل شيء، حتى في شراء ملابس العيد أكثر الأمور إسعادًا لكل طفل في العالم، فما بالكم بأصغر أسير؟!