عندما جاء الوقت لأمسك فيه القلم لأكتب مقالا عن أول شهر رمضان أعيش أيامه وأقضى لياليه بين أهلي وناسي وأحبائي، بعد غياب استمر سبع عشرة سنة كانت تحمل العذاب والتعب والمعاناة في كل تفاصيلها.
أمسك القلم وأحركه لأنني أشعر بالألم لمن بقي خلف قضبان زنازين الاحتلال، وبالأمل أحركه تارةً أخرى لما أجد من حب وسعادة بين أهلي وناسي.
ولعلي أسلط ضوء مداد قلمي المأخوذ من وجع قلبي ودمع عيني على أول شهر رمضان أعيشه بين أهلي وناسي، ولعل المدخل لهذا المقال -والذي وإن حَسُن الكاتب- فإنه لن يستطيع التعبير عن كل ما وجد من ألم الفراق وجراح البعد عن الأم الكبرى أرض الوطن فلسطين، والأم الصغرى أمي الحنون زينب، لكنه جهد المُقل وقدرة المُفلس، يحاول الكتابة ليكن فيها الإبانة عن واقع الأسرى الفلسطينيين وغيرهم من إخوانهم العرب.
رمضان بين أنفاس الحياة، ورمضان بين الأهل والأحباب، فهو الشهر الذي يحمل الخير والعطاء وعدم الحرمان لكل من كان مستضيفًا له في قلبه وعقله وسلوكه، فصام البطن عن الطعام، وصام اللسان عن الحرام، وصامت العين عن نظرات الشيطان، وصامت الأذن عن كل ما يغضب الرحمن، وصام الفرج عن الحلال طلبًا لرضا الكبير المتعال.
رمضان الذي عشته بين الأهل أُقبل يد أمي وتمسح بيدها الحانية على رأسي، تطعمني بيدها وأطعمها بيدي، متى اشتاقت روحي لرؤية وجهها البهي نظرت إليه حتى يتربع الفرح الروحي المقدس على عرش روحي.
رمضان هذا صليت في المسجد ووضعت جبهتي على بسط الرحمة في بيت الله.
رمضان هذا عشته دون كدر ولا نكد، لا تفتيش ولا اقتحام، ولا قتل لفرحة رمضان لأي سبب من السجان.
رمضان هذا أخرج متى أردت، وأحرك رتاج "مقبض" الباب وحدي، لا أحد يغلق عليَّ الباب ويضع أقفالًا بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدك لم تكد تصل إليها.
رمضان هذا عشت وزجاجات الماء البارد عندي أحضرها متى أشاء وأتركها متى أشاء، فلا سجان يمنع إحضارها ولا أحد يعاقبني لأنني طلبت زجاجة ماء بارد.
رمضان هذا عشته تحت لمسة اليد الحانية، لا الكلبشات الآثمة.
رمضان هذا عشته وأنا مغمور بالسعادة مليء بالفرح، لا ممتلئ بالغضب بسبب إنزال عقوبة من السجان بي أو بأحد إخواني.
لقد كانت تجربة السبع عشرة سنة، كبيرة وكبيرة جدًّا، لكن رمضان هو شهر الخير والعطاء حتى في زنازين المحتل، فعندما كان يهل علينا نضع برنامجًا لاستثمار أوقاته بأفضل الطرق وأفضل العبادات، فتكون هناك لجنة لإعداد الطعام، ولجنة لجلي الأطباق، ولجنة لشطف الأرض ومسحها بعد الانتهاء من الطعام.
ولجنة لصناعة الحلويات، القطايف تصنع من الشعرية بعد إذابتها في الحليب، والكنافة من السميد وهكذا، وقد تكون اللجنة عبارة عن شخص واحد، فالحاجة أم الاختراع.
وهناك لجان خاصة لمتابعة القرآن الكريم، والخطباء والمواعظ والتوجيه وغير ذلك، حتى يكون استثمار رمضان كله في طاعات وتقديم قربات، وأي طاعة خير من القرآن وأي قربة خير من تلاوة آيات الرحمن.
وصلاة التراويح كل غرفة تصلي وحدها، لأن اجتماع الجميع ممنوع، فلا يسمح لنا الاجتماع بالفورة -أي الساحة- لأداء شعائر الصلاة، وقبل أذان المغرب نعقد حلق الذكر ومجالس المأثورات، ثم الدعاء، ثم الانفضاض إلى الغرف للتجهز لصلاة المغرب والإفطار.
رمضان جميل في كل مكان، ومهما كانت الظروف لكن هناك في الأسر يسخر الأسير من جراحه، ويتعالى على عذاباته فيعيش هذه المناسبة السعيدة بفرح، ولكن هناك لحظة المكوث وحده، فإذا جاءته الذكريات وضرب الحنين أرض روحه، وقرع الشوق باب قلبه فهناك تنساب العبرات ويحل الحزن ويأتي الألم، لأن هذا الأسير وكل أسير يريد أن ينتقل من أنفاس الموت إلى أنفاس الحياة فأنقذوا الأسرى.