نتيجة لاجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في سبتمبر 2020م، وما تبعه من لقاءات، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس في يناير 2021م مرسومه بإجراء الانتخابات التشريعية في الثاني والعشرين من الشهر المقبل، تتلوها الانتخابات الرئاسية ثم المجلس الوطني الفلسطيني. وقد قطعت ترتيبات وتجهيزات الانتخابات مراحل متقدمة على طريق الاستعداد لذلك اليوم. ومع الاقتراب أكثر فأكثر، بدأت دوائر المخابرات الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية ترصد اتجاهات الشارع الفلسطيني، وتضع توقعاتها في ضوء حالة الانقسام السياسي والبرامجي والفصائلي الذي عكَسَه تقدُّم خمس وثلاثين قائمة للانتخابات، وتعطش الشارع الفلسطيني لهذه الانتخابات التي انقطعت منذ خمس عشرة سنة، معوِّلاً عليها حل كثير من إشكالات الواقع الفلسطيني.
جاءت نتائج الاستطلاعات المخابراتية لتقول إن حماس ستتمكن من حصد عدد من المقاعد أكبر من أي فصيل آخر. وهنا بدأ الحديث عن أهمية، بل ضرورة تأجيل الانتخابات، والبحث فلسطينياً وعربياً ودولياً عن مخرج مناسب، يمنع حماس من استغلال التأجيل ضد خصومها السياسيين، ويغلِّف مساعي التأجيل بمظاهر من الوطنية والرؤى الاستراتيجية.
نبحث هنا عن الخيارات المتاحة أمام الانتخابات الفلسطينية، وخصوصاً التشريعية، وهي ثلاث خيارات أو سيناريوهات،
الخيار الأول: إجراء الانتخابات.
الخيار الثاني: تأجيل الانتخابات دون توافق فصائلي.
الخيار الثالث: تأجيل الانتخابات بتوافق فصائلي.
خيار إجراء الانتخابات لازال قائماً من عدة زوايا ومسوغات:
خشية رئيس السلطة من اهتزاز صورته الشعبية إذا لم يحترم المراسيم التي أصدرها.
الخشية (فلسطينياً وإسرائيلياً ودولياً) من ارتداد عملية تأجيل الانتخابات سلباً على الأمن في الضفة الغربية، حيث يتم دفع حماس وجمهورها المتطلع للتغيير في الضفة إلى الحائط.
لازالت السلطة الفلسطينية التي تقودها حركة فتح في الضفة الغربية قادرة على التأثير على الانتخابات بطرق شتى، الأمر الذي سيجعل إجراء الانتخابات يصب في صالحها ويثبِّت أركانها أفضل من التأجيل، وهذا أمر يمكن تنسيقه مع قوى إقليمية ودولية، ولاسيما مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يملك الكثير ليفعله تجاه سير العملية الانتخابية في الضفة بما يكفل فوز حركة فتح وهزيمة خصومها، على قاعدة أن الإسرائيلي يريد قيادة فلسطينية تؤمن بعملية السلام وبالشراكة معه، وتحافظ على استمرار التنسيق الأمني.
لازالت حركة فتح تؤمن بتقدمها في الساحة الفلسطينية، كما تؤمن أنه ما من نظام عربي في المنطقة خسر انتخابات لم يشأ خسرانها، فأدوات التحكُّم بالعملية متاحة لمن هم في السلطة، فيملكون المال والقرار والإعلام والأمن والتأييد العربي والدولي. وهذا يجعلها لا تخشى الانتخابات ولا تسعى لتأجيلها.
التقديرات الأوروبية التي طالبت بإجراء الانتخابات لتجديد الشرعيات، تدرك، ومعها السلطة الفلسطينية والنظام العربي والاحتلال، أن خمسة عشر سنة من حصار قطاع غزة والتضييق على حماس في غزة والضفة، كافية لتدفع الجماهير للكفر بحماس وبتيار المقاومة من جهة، وكافية لإرهاق حماس وجمهورها بحيث لا يستطيعون القيام بمتطلبات الفوز في انتخابات تشريعية من جهة ثانية. وهذا يصب في اتجاه إجراء الانتخابات بلا خوف.
خيار تأجيل الانتخابات دون توافق فصائلي، خيارٌ قائم من عدة وجوه:
كل الاتفاقات الوطنية التي جرت في الست عشرة سنة الماضية، منذ 2005 لم يتم إلتزام السلطة الفلسطينية ولا قيادة حركة فتح بها. أي أنها لا تقيم وزناً ولا اعتباراً لتفاهمات الفصائل ولا للمراسيم التي يرون الحاجة للانقلاب عليها.
الأحزاب المنضوية تحت منظمة التحرير في غالبها أحزاب صغيرة الحجم والإمكانيات ولا تقوى على مخالفة فتح أو السير عكس التيار، ومن المرجح أن تكتفي بعبارات الشجب، أو ربما تبرير الحاجة للتأجيل لتقبض ثمن موقفها الداعم لقيادة فتح من تحت الطاولة، وعادة ما تكون الأثمان زهيدة حيث لا يملكون خيارات أخرى.
قوائم المستقلين لا تملك جماهير عريضة تدافع عن مصالحها، وبالتالي لن يكون لمعارضتها التأجيل أي تأثير يُذكر، فضلاً عن إمكانية تقديم بعض الوعود لهم بأن الانتخابات قادمة في وقت قريب وعليهم الانتظار.
حماس رغم وزنها الكبير، إلا إنها تخشى أن تعود لمربع المناكفة السياسية من جهة، وليس لديها مشروع مضاد أو خطوات راديكالية تستطيع من خلالها فرض إرادتها بدليل أفعال مهمة قامت بها فتح من قبل وتم تهميش حماس، من مثل: عقد المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس المركزي، والانتخابات المحلية في الضفة، واتفاقية الغاز بين السلطة الفلسطينية ومصر، وكانت ردات فعل حماس محدودة ومؤقتة. وبالتالي فمن المرجح لدى قيادة السلطة وحركة فتح أن تأجيل الانتخابات ليس بحاجة لموافقة أحد.
هناك ذرائع يمكن لقيادة فتح والسلطة سوقها لكبح أية أصوات تعارض التأجيل، من مثل: ضرورة مشاركة أهل القدس في الانتخابات. وأنه لا مجال لإجراء انتخابات في ظل هبّة أهل القدس، وأن قيادة السلطة لا يمكنها انتظار موافقة أحد على التأجيل في ظل هذه الظروف الاستراتيجية.
خيار تأجيل الانتخابات بتوافق فصائلي، أيضاً قائم من خلال المسوغات التالية:
التوافق على التأجيل يرفع الحرج عن حركة فتح وعن قيادة السلطة.
التوافق يعطي إيحاء للشارع الفلسطيني أن التأجيل فيه مصلحة أكيدة.
اجتماع الفصائل الذي قرر الذهاب إلى انتخابات، ستتم دعوته للانعقاد لمناقشة العراقيل التي تحول دون إجراء الانتخابات في موعدها، وسيتم معه مناقشة قرار التأجيل، وهو ما سيشجع الفصائل لتكون أكثر مرونة بدواعي إمساكها بفرصة صدور القرارات عنها.
الفصائل صغيرة الحجم سترى في التوافق على التأجيل مخرج مناسب جداً يحافظ على ماء وجهها، فتظهر أمام الرأي العام بأنها ناقشت المسوغات ووصلت لقرار مشترك ولم يتم تجاهلها. وستذهب بعض قوائم المستقلين هذا المذهب.
بدأت بعض كوادر حركة حماس، وربما بإيحاء من بعض القيادات، تتحدث عن ثمن مناسب من الضروري أن تقبضه حماس لقاء موافقتها على تأجيل الانتخابات. هذا الطرح في حد ذاته يحمل بذور الموافقة على التأجيل من حيث المبدأ، وهو يشجع قيادة السلطة وفتح على طرح مسألة التأجيل لاعتبارات عديدة ستسوقها، بلا خوف ولا تردد.
سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن تؤمن بالدبلوماسية والتغيير الهادئ، وسوف ترى من مصلحة السلطة الفلسطينية إجراء تفاهم داخلي يضمن تأجيل الانتخابات كلما لزم الأمر أو تفعيلها كلما أصبح الأمر مناسباً للحزب الحاكم الذي يؤمن بالعملية السلمية والتعايش مع إسرائيل. بَحْث الرئيس محمود عباس عن دور لدولة قطر في إقناع حماس ليس بعيداً عن التأثير الأمريكي.
إن إجراء الانتخابات يحقق مصلحة فلسطينية، ويضمن استقرار الحالة الداخلية، لكن تحفُّه مخاوف لدى فتح وحلفائها، ولدى حماس أيضاً في حال تمكنت فتح والاحتلال من التأثير على الانتخابات في الضفة. إرسال بعض الإشارات من فتح بالرغبة في تأجيل الانتخابات استدرج حماس لموقف متشنج إلى حدٍّ ما ويتمسك بإجرائها رغم ما سيقوم به الاحتلال بحق مرشحيها وناخبيهم في الضفة. ومن الممكن الاتفاق على موقف تجاه انتخابات القدس. وأي موافقة من حماس على التغاضي عن الانتخابات في القدس سيتلقفها الخصم في دعايته الانتخابية حتى لو تورط معها في ذات الموقف.
تأجل الانتخابات بدون توافق هو سلوك اعتادت عليه فتح طويلاً، وهو يتناسب مع عقلية استعلائية ترى أنها ذات الأمجاد وصاحبة الماضي والحاضر والمستقبل، وألا أحد يناطح فتح. لكن نصائح الأوروبيين والأمريكان ودولة الاحتلال وبعض الدول العربية ستدفعها لتأجيل نظيف للانتخابات، بحيث تخرج فتح وقيادة السلطة مستفيدة من هذه الجولة، ولذلك لن تُقدِم فتح والسلطة على تأجيل من طرف واحد.
التوافق على تأجيل الانتخابات يمثِّل سياسة هادئة تتناسب مع التوجهات الأمريكية الجديدة، حيث تؤدي لامتصاص الخصوم وتنفيس الواقع بديلاً عن التأزيم، وهي رؤية واقعية ترى أن كل شيء ممكن مع قليل أو كثير من الجهد. سيحاول الرئيس محمود عباس سماع رأي الفصائل وتلمُّس مدى جذرية ومبدئية مواقفها في لقاء قبل نهاية هذا الشهر، ثم يستشير حلفاءه في الأمر، فإن كان الثمن الذي تطلبه الفصائل والقوائم، وحركة حماس تحديداً، ثمناً ميسوراً لا يرفع حصاراً عن غزة، ولا يضمن لحماس التمدُّد في الضفة، فسوف يكون هو الخيار الأمثل. وإلا فإن الذهاب إلى الانتخابات هو الخيار الراجح مع توفير أقصى قدر من الظروف المساعدة لفوز حركة فتح.
ومهما يكن من أمر، فإن الفصائل، وخصوصاً حماس هي مَن تملك عامل الترجيح بين الخيارات الثلاث، وبدون موافقتها على تأجيل الانتخابات فلن يتم التأجيل.