بعد توقيع مصر وإثيوبيا والسودان إعلانَ الخرطوم في 23/3/2015 تعثرت المفاوضات بين مصر والسودان من ناحية، وبين إثيوبيا من ناحية أخرى بسبب اعتناق إثيوبيا عددًا من الخرافات القانونية لكي تبرر سلوكها العدواني ضد مصر بالذات بدليل أنها فرضت الأمر الواقع على مصر وأكملت ملء السد للمرحلة الأولى التي استهلكت خمسة مليارات متر مربع من المياه، ما أثر في تدفق مياه النيل الأزرق نحو مصر والسودان واضطر مصر إلى سد النقص بمخزون بحيرة السد العالي وفق المتحدث باسم وزارة الري المصرية.
ومما استفزني وأعادني إلى الموضوع بعد أن قلت فيه كلمتي على امتداد ثماني سنوات دون أي اهتمام من جانب الحكومة، ذلك الجدل الذي ثار حول إعلان المبادئ في الخرطوم.
أولا: فالحكومة الإثيوبية اعتبرت الإعلان هو الأساس القانوني لتسليم مصر بحريتها في بناء السد والانفراد بإدارته بمطلق إرادتها والزعم أن مجرد توقيع مصر الإعلان رفع الفيتو المصري عن المشروع، ما أتاح للدول المانحة أن تقدم التمويل الموقوف إلى إثيوبيا لبناء السد وفق التفسير والسلوك الإثيوبي، ولذلك فإن الفيتو المصري على التمويل لا يرفع بمجرد التوقيع وإنما بما يسفر عن المفاوضات في إطار هذه المبادئ من اتفاق ملزم ومرضٍ. ولما لم أجد ردًّا من جانب الحكومة على هذا التفسير قدرت أن ردي يمكن أن يفيد من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد حبًّا في مصر وإشفاقًا عليها مما هي مقدمة عليه.
ثانيًا: من ناحية أخرى، اعتبر نقاد الحكومة المصرية أن هذا الإعلان هو بمنزلة شيك على بياض وتنازل عن حقوق مصر في نهر النيل. ومما زاد الطين بلة أن موقع إثيوبيا بالعربي "تجاسر" نشر أن الحكومة المصرية هي التي باعت حصة مصر من المياه لـ(إسرائيل) من المنبع بمبلغ 20 مليار دولار.
ونحن نرى أن كلا التفسيرين غير صحيح لأن إعلان المبادئ هو القاعدة التي يجب أن تسترشد بها المفاوضات فهي أطر نظرية ترشد المتفاوضين وهم يبحثون عن حلول للمشكلة. فلم تعطِ مصر لإثيوبيا شيكًا على بياض ولم تعترف بالسد الإثيوبي دون ربط هذا الاعتراف باحترام إثيوبيا لحقوق مصر المائية وبالقانون الدولي للأنهار الدولية. فإعلان المبادئ لم يرفع فيتو مصر على بناء السد ولم يسوغ للدول المانحة أن تقدم التمويل لإثيوبيا إلا بعد الاتفاق بناء على المفاوضات التي تجري وفق هذا الإعلان.
فالإعلان ليس معاهدة دولية واجبة العرض على البرلمان وإنما تملك مصر الانسحاب منها على أساس أن إثيوبيا خلال المفاوضات لم تحترم هذه المبادئ والتي لا ترتب حقوقًا لإثيوبيا كما تزعم.
وليس في الإعلان ما يدعم مزاعم إثيوبيا من أن مصر وافقت على أن تنفرد إثيوبيا ببناء السد وإدارته وإنما وضع الإعلان قواعد ومبادئ للتفاوض سعيًا للاتفاق على ذلك. فلا الحكومة فرطت ولا هي أعطت لإثيوبيا شيكا على بياض، وعندما اقترحت في البرنامج على الحكومة في مقال سابق الانسحاب من الإعلان كان ذلك احتجاجا على أن إثيوبيا لم تحترم مبادئ الإعلان وانتهجت وجهة انفرادية وادعت لنفسها سلطات وحقوقا تناقض الالتزامات القانونية وأثبت أنها استغلت حسن النية في التآمر على مصر والكيد لها والإساءة إليها.
وإعلان الخرطوم يشبه تمامًا إعلان أوسلو الذي فسرته (إسرائيل) على أنه معاهدة سلام بين (إسرائيل) ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولما لم تحترم (إسرائيل) أيًّا من مبادئ الإعلان وحولت المفاوضات مثل إثيوبيا تمامًا لكسب الوقت والتدليس حتى تفرغ من إحكام خطتها في إضعاف الفلسطينيين واستكمال حلقات مشروع الاستيلاء على كل فلسطين، أعلنت أن المفاوضات هي من أجل الإقرار الفلسطيني بما تريده، وضربت إثيوبيا عرض الحائط بالوساطة الأمريكية والبنك الدولي والوساطة الإفريقية.
ومع ذلك فما دامت إثيوبيا لم تحترم مبادئ الإعلان وأفشلت جميع دورات المفاوضات فإنه يستوي وجود الإعلان أو الانسحاب منه لأن قضية مصر هي كيف تمنع جريمة إبادة مصر والنيل من بقاء مصر وعدم الانصراف إلى الإجراءات والاستغراق فيها دون مواصلة برنامج شامل لإنقاذ مصر من مؤامرة إثيوبيا.