فلسطين أون لاين

صوت من وسط الظلام

أن يأخذك الكاتبُ إلى حيثُ يريد، وأنتَ بكاملِ قواكَ العقليةِ والنفسيةِ دونَ مللٍ أو كلل، وأن يُبكيكَ ويُفرحكَ ويرفع حاجبيكَ ويُنزلهما ويُجبركَ على تغييرِ جلستِكَ وترك فنجان قهوتكَ من يدك، وأن يُفقدك الإحساس بمحيطك أثناء قراءة الراوية، ويجعلك تقرأ بعض الفقرات مرتين لأناقتها ورشاقتها، وتكتبها في دفترك الخاص، وأن يُشعرك بأن بطلَ الروايةِ هو شخصٌ تعرفه في الواقع، فاعلم أنك تقرأ رواية مميزة مثل التي قرأتها أنا، وتنتظر الخاتمة وأنت على أحر من الجمر، مثلما حدث معي، حتى سمعت " صوتا من وسط الظلام".
أعترفُ اني عشتُ ساعاتٍ طويلة بانتظار سماع "صوت من وسط الظلام " تلك الرواية التي أهدتني نسخة منها كاتبتها الدكتورة القديرة زهرة وهيب خدرج "عبرت مسافات جغرافية طويلة حتى وصلتني من قلقيلة إلى رفح، سعدت جداً بتلك الهدية، قرأتها وهذا ما وجدته فيها.
"صوت من وسط الظلام" التي يصح تصنيفها من" المذكرات الشخصية " هي رواية تتحدث عن " أُمنية " الطفلة التي فقدت بصرها مبكراً نتيجة وصفة علاجية شعبية خاطئة وصفتها احدى العجائز، وفي عامها الرابع أُدخلت دار الأمل للمكفوفين وتوقعت أن تجد من يحنو عليها ويعوضها عن بصرها المفقود، فاذا بها تكتشف أنها دخلت مؤسسة أشبه ب" ثكنة عسكرية" والكل مُطَالبٌ بتنفيذ أوامر القائد، فمديرة الدار الآنسة أحلام، لم تكن مؤنسة بل كابوساً يقض أحلام الفتيات.
شدت الكاتبة أعصابي شداً ممزوجاً بالفرحة والانتظار حين دار حديث بين "أمنية" و صديقتها "سهام" التي استعدت لمعالجة أمنية حتى تبصر، وبدأت معها بالخطوات العملية، والله حينها صدّقتُ أنا وفرحتُ من أعماق قلبي لأني شعرت بأن "أُمنية" أصبحت جزءً من معارفي المقربين، لكن "يا فرحة ما تمت".
مما أثر كثيراً في قلبي أن " أُمنية " ورغم انها كفيفة استدلت على مكان أُمها من أنفاسها حينما جاءت تزورها في معهد الأمل، وتعاطفتُ مع "أمنية" في كل مراحلها حين اتُهمت بالسرقة وحين مرضت ولم تجد أحدا بجانبها سوى صديقتها " منى".
تعلمت من "أمنية" أن العمى ليس عمى البصر، بل عمى البصيرة، ففي الرواية تفاصيل كثيرة تذكرها "امنية" تحتاج لمبصر كي يصفها، لكنها لا تعمى العيون ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ومن "أمنية" تعلمت أن الإعاقة الجسدية لا تمنع صاحبها من الإنجاز طالما توفرت الإرادة في نفسه.
حزنتُ حين حزنت "أمنية "على فراق "حسنة" زميلتها في الدراسة، وحينما عادت لإجازة في قريتها أحزنها وفاة "سهام" صديقتها في القرية، وغضبتُ جداً حين تعرضت لتسمم متعمد من ابن عمها فساومها بالعلاج مقابل أن تلبي شهوته، فرفضت.
كم غضبتُ حينما دار الحديث عن رحلة فتيات المعهد للحديقة وأكل الموز وما تلاه من شتم المشرفة أحلام لمن ألقين قشور الموز على الأرض ونعتها لهن "بالكلبات" وقلتُ " وددت إذ طوقتها قتلها".
لم تخل الرواية من الوطنية حيث أكدت "أمنية" أنها تسعد جداً من حديث والدها لجدتها عن الفدائيين وبطولاتهم ودور المذياع في تعميق الثقافة الوطنية"، كما أكدت على أهمية دور المعلم فكثيراً ما تحدثت "أمنية" عن سوء معاملة المعلمة أحلام لها ولصديقاتها حتى جاءت المعلمة "رفيدة" التي أحبها الجميع .
لم تستلم أمينة لظلمة العين، بل سعت ليكون لها اسماً مميزاً في عالم الصحافة والإعلام، فنالت ما تمنت، وكتبت في عدة صحف وعملت كمراسلة لمجلة "جزسطين"، وأولت اهتماماً كبيراً في تقاريرها وأعمالها بالنساء، حتى التقت ب"رامز" مخرج أفلام وثائقية قصيرة والذي أصيب بإعاقة من قذيفة صهيونية في انتفاضة الحجارة، فأعجب بها وعرض عليها الزواج، فجلست في مساء ذات يوم اللقاء تخوض الجزء الأخطر والأهم من معركة اثبات الذات بالتفكير هل أسرتها ستتقبل فكرة أن "أمنية" ستتزوج في يومٍ ما وكيف سيكون عليه الحال وقد غدت في السادية والثلاثين من العمر؟
ومما زاد من جمال الرواية أن عناوين بعض فصولها مسمى بآيات قرآنية " فابيضت عيناه"، و"إنى ليحزنني أن تذهبوا به"، و" فرجعناك إلى أمك"، "ولقد مننا عليك مرة أخرى".
إن قرب الأحداث من الواقع وتشابه الأسماء لأسماء حقيقية جعلني أشعر أن الكاتبة تقص قصتها، فسألتها عبر الواتس هذه قصتك؟ فقالت: قصة قريبة من واقعي، فأدركت حينها أن العمل الروائي يكون رائعاً وجذاباً كلما اقترب من الواقع، ويحدث صوتاً قويا كما حدث في "صوت من وسط الظلام".