حتى في زنازين الاعتقال، شهر رمضان له جمال خاص، الساعة الثانية فجرًا يبدأ الاحتفال، أستيقظ من نومي وكلي شوقٌ للوقوف بين يدي الله، أتجهز والتسابيح لا تفارقني، أستقبل القبلة وفي يدي مصحفي، على ضوءٍ خافت أبدأ صلاتي وقراءتي للقرآن، يذوب الجسد مع المعنى، وتصعد الروح محلقةً في جمال خلق الله، إلى أن يتسرب الأذان الأول من بين القضبان والجدران، لأقف حزينًا مودعًا وردي، منتقلًا إلى طاعةٍ أخرى.
السحور، تسحروا فإن في السحور بركة، مما قسم الله نبدأ في تجهيز السحور، قليلٌ من هنا وهناك حتى نرى أطايب ما يمكن صنعه، نتحلق حول المائدة والدعوات تنهال من الجميع بالقبول، وأن يُبارك المولى لنا المولى في صيامنا وقيامنا، وأن يفك أسرنا وأسر إخواننا المأسورين، وأن يعيدنا إلى أهلنا محررين فاتحين، اللهم آمين.
بقايا من طعام الأمس، وما تم استصلاحه من خضار، تُزينها أُخُوَّة اللحظة في ابتسامة صغيرة ترتسم على وجوهنا، نبقى في هذه الحال حتى نسمع صوت أسير ينادي: "عشر دقائق على الأذان يا عباد الله"، نتعجل في شرب الماء وغسل الأواني والاستعداد لصلاة الفجر، في الفجر نصلي والترانيم جميلةٌ، يبرع الإمام في قراءة القرآن، والبعض منا يجيد المقامات، فنعيش الموشحات الأصيلة، لنذوب من جديد في ملكوت الله.
والأذكار لها شجون، بصوتٍ واحدٍ نتلو الأذكار، تسابيح واستغفار، أدعيةٌ وآيات، مجموعةٌ في ترتيبٍ لطيفٍ على القلب، وتنتهي في دعاء الرابطة: "اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، فوثق اللهم رابطتها".
حتى نسمع أصوات تعكر صفو اللحظات الإيمانية، تنادي زاعقةً سماعة السجن العامة أن العدد الصباحي قد بدأ، العدد من أجل أن تصبح رقمًا، لكن لا يعلمون أن رُبَّ قيدٍ قاد نصرًا، ليرتاح من أراد ذلك لاحقًا، متحضرًا ليومٍ طويل يتخلله كل الوقائع في الأسر، إلى أن يقترب وقت المغيب.
الإفطار له نكهة مختلفة، فالأسرى يصنعون من العدم وصفات طعام ليست بالكتب، من جديد حول المائدة مع دعاءٍ بالقبول، وشربة ماءٍ تُحيي العروق، وحبة تمرٍ أتت من بعيد، يثب الجسد بعد يومٍ مرهق، ويستعد كما لو لم يكن شيء، فرمضان يزينه الصيام والقيام وقراءة القرآن.
صلاة التراويح تشعر بالتميز عندما تصليها، فهي ليست في كل الأشهر، وتمر سريعًا بسلاستها، قراءةٌ للقرآن معبرةٌ، ومزامير داوود تصدح في الآفاق، وموعظةٌ بين ثناياها، فأنت في صلاة التراويح، تنتهي الركعات الثماني بجمعةٍ لطيفةٍ نأكل فيها ما استطعنا صنعه من حلويات.
نودع يومنا بذكر الله تعالى، لنعود لاحقًا إلى الساعة الثانية فجرًا، نطوي الأيام، وننتظر الفرج من الله والنصر القريب.