منذ سماعي لخبر رحيل المجاهد القسامي والرمز الوطني صلاح عثمان اعترتني حالة قوية من تداخل للمشاعر وتزاحم ذكريات. فمن حزن على رحيل رجل احببته منذ كنت صغيراً الى شريط ذكريات قفز فجأة أمام ناظريّ عُدتُ فيه 28 عاماً الى الوراء الى تلك اللحظات التي عشنا فيها تفاصيل حكاية جديدة وفصل ملحمي مجيد من فصول النضال الفلسطيني. عادت بيّ الذكرى الى حارتي التي كنت أجلس فيها في قرية صورباهر وتذكرت كيف انقلب حال الجميع فجأة وتراكضوا نحو المذياع الذي كان هو مصدر الأخبار العاجلة في ذلك الوقت، وراحوا يستمعون الى مجريات وتصاعد أحداث خبر عملية وقعت قبل قليل في التلة الفرنسية في القدس، وتتصاعد الأحداث فبعد أن كان محاولة خطف حافلة صهيونية تطوّر الى مطاردة سيارة استقلها المنفذون، وفي هذه الأثناء كانت تحلق في الأجواء طائرات مروحية صهيونية. كنت استمع الى الأخبار وأنا ارقب حركة الاستنفار الصهيونية في الجو والشوارع، وسحابة دخان متصاعدة من مكان بعيد عن التلة الفرنسية حيث تم السيطرة على السيارة على طريق يقع في سفح جبل بعيد يمكن رؤيته من حيث أقف.
هذه المشاعر والذكريات كانت سبباً في دخولي حالة حزن على هذا الفراق لكن الذي فاقم الحزن وراح يعتصر به قلبي هو فقدنا لكنز وقيمة وطنية عالية جداً قبل أن نستثمر وجودها بيننا. ففي كل الدول يدفعون المليارات ليستحصلوا رمزاً بربع ما كان عليه حال الراحل الشهيد صلاح عثمان. ومما دفعني الى كتابة هذه السطور أنني وفي معرض حديثي باندفاع وكلمات تعج بالحنين والشجون عن هذا الرمز لبعض الأخوة صُدمت بمقولتهم: "الصحيح أول مرة نسمع عنه".
لماذا تركناه يرحل قبل أن نطوف به المدارس والجامعات؟ لماذا تركناه يرحل قبل أن نفرد له مساحات كبيرة في فضائياتنا وصفحاتنا ليروي الحكاية للأجيال ويقص عليهم ملحمة كالإلياذة لكن الميزة كانت ستكون هو وجود أحد أبطالها حياً بيننا.
لِمَ تركناه يرحل قبل أن يقدم للأجيال نموذجاً عن عظيم قدرة الله وقوة المقادير التي تحوم فوقنا قاهرات، فهو الذي عاش الحياة مع الزمان مجيداً ومضى الى درب المواجهة وقد كانت إحدى خياراته ان يمضي شهيداً.
وقف في فم الموت واقتحم عليه حصنه ثم عاد لأن كلمة الله قد سبقت.
لِمَ تركناه يرحل قبل أن نجعل الأجيال تتسمّر وهي تستمع الى تفاصيل المواجهة وحكايات البطولة والبسالة، لمَ لمْ نمنح جيل التسعينات فرصة أن يعرفوا أنه وفي ذكرى مولدهم كان هناك نجم فلسطيني يتولّد وكانت هناك تفاصيل ملحمة ترتسم.
نقدم في مناهجنا كتاب التربية الوطنية بينما يعيش بيننا كتب بجسد وروح مليئة بفصول تعزز قيمة التربية الوطنية وتصنع وعياً ثورياً منقطع النظير.
لفت انتباهي في إحدى التقارير التي تُعدُّ بالآلاف التي يصنعها المحتل حول روايته عن الحجم المزعوم لمحرقته هو استخدام تكنولوجيا الهيليوغرام حيث يجرون مقابلات مع اشخاص ممن يسمونهم بالناجين ويسجلون معهم بنكاً كبيراً من أسئلة واجوبة يتم عرضها في المتاحف المتخصصة بمحرقتهم المزعومة بحيث اذا جاء طفل ولو بعد مائة عام يطرح الأسئلة المفترضة تظهر أمامه الشخصية الافتراضية لتجيب.
نحن أول وأكثر من نظّر بأن خير وسيلة لتربية الرجال هيَ سِيَرُ الرجال ونحن كشعب أكثر من يملك رموزاً وأبطالاً مكتنزون بروايات الشرف والبطولة فلماذا نترك هذا الكنز يتسلل من بين أصابعنا ونحرم الأجيال من التمتع والاستفادة منه الى أبعد مدى.