عندما وقف ياسر عرفات أول مرة على منبر الأمم المتحدة عام 1974، في واحدة من ذرى الاعتراف العالمي بالفلسطينيين والقضية الفلسطينية وممثلهم الشرعي، كان في الخامسة والأربعين من عمره. وكان جورج حبش، المعارض التاريخي لعرفات في إطار منظمة التحرير، يبلغ الثامنة والأربعين، عندما انقسمت الساحة الفلسطينية إلى رفض وقبول للبرنامج المرحلي. رسمت الحركة الشابة بقيادتها الشابة مستقبل الفلسطينيين في المنطقة، وأعلنت وجودهم السياسي الذي أراد الآخرون إخفاءه... اليوم، المتمردون على القيادة في حركة فتح ومثالهم ناصر القدوة، يبلغ الثامنة والستين، أي هو وأمثاله في سن التقاعد في كل قوانين العالم.
ما أهمية الفرق في الأعمار، ولماذا التذكير بهذه الوقائع التاريخية؟ في السياسة، كما في الحياة، الفروق العمرية في غاية الأهمية، لأن العجائز في السياسة يبنون مكانهم على الماضي، يُذكرون بأنهم، في تاريخهم السابق، فعلوا كذا وكذا، ما يجعلهم يعتمدون تاريخهم السابق في تسويق أنفسهم، بوصفهم صانعي التاريخ. الشباب لا يستطيعون ادعاء ذلك، فيكون عليهم صناعة المستقبل، وبالتالي صناعة تجربتهم التي ستجعلهم يومًا يفخرون بمنجزهم أو يخجلون منه. لذلك، يمكن القول إن العجائز أبناء الأمس العاجزون عن صناعة المستقبل. والشباب هم صانعو المستقبل الذين لا يملكون تاريخًا يثقل عليهم ويشل حركتهم. ومن يراجع بعض التغيرات المهمة التي شهدتها الدول الكبرى، والتي كانت حدثًا كبيرًا، غالبًا ما يكون صاحب الطرح الجديد من أجل المستقبل مرشحًا شابًا وواعدًا، حاملًا لواء التغيير. أما العجائز، فيُقدمون أنفسهم بوصفهم حماة المنجز والتقاليد التي استقرت، والمهددة بفعل التغيرات.
ليست قضية الشباب والشيوخ عارضةً في الساحة الفلسطينية، فهي مفتاح مهم لفهم العطالة التي تعيشها هذه الساحة. في الوسع القول إن النخبة الشابة التي أمسكت العمل السياسي الفلسطيني منذ نهاية الستينيات أطبقت عليه طوال التاريخ اللاحق، بصرف النظر عن موقعها السياسي في الخريطة السياسية الفلسطينية. وطوال العقود اللاحقة، لم يولد أي تحد سياسي شبابي ببرنامج مستقبلي، يهدد هذه النخبة المتحكمة بالقرار الفلسطيني، والبنى الشابة التي دخلت التجربة تم تطويعها في سياق السيطرة الأبوية لقادة الفصائل الفلسطينية على البنى التنظيمية الممتثلة للقيادة. وهو ما يمكن اعتباره عامل تعقيم (من العُقم) للحركة السياسية الفلسطينية، باحتكار هؤلاء الذين أمسكوا بالقرار وتابعيهم السلطة في الحركة السياسية، وهم ما زالوا ممسكين بالقرار ومفاصل العمل السياسي. وإذا كان الرئيس محمود عباس، وعمره 86 عامًا، المثال الأبرز لهذا الاستمرار، فإن الجيل الثاني الذي في السبعينيات من عمره، ويشكل الكتلة الأساسية من قائمة حركة فتح للمجلس التشريعي، آتٍ من البيئة نفسها، وهو جيل مطوع من القيادة التاريخية. وبالنظر إلى أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح المرشحين لانتخابات المجلس التشريعي، التي في مقدمتها محمود العالول (71 عامًا)، وأصغرهم جبريل الرجوب (67 عامًا)، هذا بعد استثناء دلال سلامة (55 عامًا)، والتي أعتقد أنها ليست سوى ديكور نسائي في اللجنة المركزية لحركة فتح.
كيف نقرأ وضع الساحة الفلسطينية آخذين بالاعتبار ما ذكر أعلاه؟ لحالة الاستنقاع التي تعيشها الساحة الفلسطينية اليوم، سياسيًا وقياديًا، علاقةٌ، إلى حد كبير، بعدم قدرة هذه الساحة على تجديد قياداتها، على مستويي السياسة والعمر؛ المسألتان مترابطتان. لأن من الممكن تجديد القيادة ببعض المظاهر الشابة كنوع من الديكور، لتجميل المستنقع، وهذا ليس التجديد الذي تحتاجه حركة وطنية تعيش مأزقًا وجوديًا. تآكلت حركة فتح التي شكلت العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، وتحولت إلى شيء هلامي. لا يتحمل محمود عباس وحده مسؤولية ما وصلت إليه الحال، بل يتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية الرئيس الراحل ياسر عرفات، والذي كان قادرًا على توحيد حركة فتح، وهي ميزة يفتقدها عباس. كما أن انتقال الوضع الفلسطيني من سيطرة "فتح" على منظمة التحرير إلى السيطرة على السلطة الفلسطينية، جعلها تعيد إنتاج بنيتها بطريقة أبوية استزلامية، توغل فيها الرئيس عباس إلى نهايتها. ونستطيع القول إن ما يحمل حركة فتح اليوم، ليس تاريخها النضالي، بل امتيازات السلطة وفسادها، على تفاهة منجز السلطة منسوبًا للمشروع الوطني الفلسطيني الذي قام من أجل استعادة حقوق الفلسطينيين، وليس من أجل سلطة حكم ذاتي إداري تحت إشراف الإسرائيليين. المؤشر الهام على هذا الوضع وضع شركاء حركة فتح في منظمة التحرير، فهذه الفصائل، بكل طيفها السياسي وتنوعها، من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مرورًا بالجبهة الديمقراطية، وصولًا إلى جبهة التحرير العربية، لا يُقدر لها الوصول إلى المجلس التشريعي. ويأتي التحدي من حركة حماس، أي من خارج إطار منظمة التحرير الذي استهلكته "فتح" وعلكته، حتى بات غير صالح للاستخدام، لخواء مضامينه، ولضعف الشركاء الذين تلاشوا وتحولوا إلى رايات حزبية بلا عضوية جدية، إلا بما يناسب ميزانياتها المالية (الكوتا) التي تأخذها من الصندوق القومي، أي الجميع يعمل عند حركة "فتح" وبالتالي عند رئيسها عباس. بذلك، تحولت "فتح" إلى حزب سلطة، قبل استكمال المشروع الوطني الفلسطيني.
تتجسد عطالة الحركة السياسية لحركة فتح بعدم مقدرة هذه الحركة على أن تكون، بقياداتها المترهلة، القوة الحاملة للمشروع الوطني الفلسطيني. لذلك، يحتاج إحياء المشروع الوطني الفلسطيني، في مواجهة تعقيدات الواقع القائم، حركة شابة قادرة على صناعة المستقبل الفلسطيني في صيغ نضالية تتجاوز حالة الترهل والعطالة التي يعيشها الوضع الفلسطيني. هناك حركةٌ وطنيةٌ فقدت دورها في بناء المستقبل، ومشاركتها في صناعة التاريخ السابق لهذه الحركة، لا تعطيها الحق في مصادرة المستقبل الفلسطيني. والانتخابات المقبلة، وقبل إجرائها، كشفت هشاشة حركة "فتح" وانقساماتها، وعدم قدرة قياداتها على صناعة التوافقات داخلها، ما جعلها تتقدم بقائمتين انتخابيتين؛ الأولى يرعاها الرئيس عباس، والثانية الأسير مروان البرغوثي، وستكون ثلاثة، إذا أضفنا قائمة محمد دحلان التي تحسِب نفسها على "فتح"، وستأخذ من رصيدها.
قيادة حركة فتح، المهلهلة غير القادرة على ضبط أعضائها، الحركة السياسية كارثة وطنية، ولا يمكن لانتخاباتٍ بائسةٍ أن تجدد هذه الحركة، ولا المشروع الوطني الفلسطيني، بل على العكس، هي تكشف هشاشتها السياسية وانهيار المشروع الوطني، قبل إجراء هذه الانتخابات.