فلسطين أون لاين

وصفي قبها.. نائبٌ مُبعَد ودَّع أمه بـ"الصلاة" على جثمانها على حاجز إسرائيلي

...
النائب وصفي قبها (أرشيف)
غزة- جنين/ يحيى اليعقوبي:

توقفت سيارة الإسعاف عند الحاجز الإسرائيلي المؤدي إلى قرية "برطعة" الواقعة شمال جنين، كانت هذه آخر نقطة يمكن أن يلقي النائب المبعد عن القرية وصفي قبها نظرة الوداع الأخيرة على جثمان والدته المتوفاة، بعد رفض جنود الاحتلال السماح له بدخول القرية لمواراتها الثرى بدعوى "أنه ممنوع من دخول القرية".

أنزل المسعفون جثمان أمه الممد على سرير طبي ساكنة بعد أن عرجت روحها إلى السماء، وأمَّ النائب بعدد من أفراد العائلة صلاة الجنازة، قرب الحاجز الإسرائيلي.

انتهت الصلاة، ونقل الأقارب والمسعفون السرير إلى سيارة إسعاف أخرى تنتظر على الجانب الآخر من الحاجز قرب جدار الفصل العنصري.

كان قبها يقف وحيدًا تتساقط دموعه أسفل قدميه وهو يراقب تلك المراسم، ثم أدار ظهره وعاد إلى مدينة "جنين"، وهو الذي أحوج ما يكون إلى مواساة الناس والأقارب ودفن والدته ووضع ذرات التراب الأخيرة على جثمانها، لكن في هذه الحالة كانت دموعه هي ذرات التراب الأخيرة التي غسل بها روحها، ولم تشفع وفاة أمه أمام قرار منعه دخولَ "برطعة".

"في آخر عامين لم أستطِع رؤيتها بسبب تفاقم المرض عليها، وفي آخر أيامها كنت ألازمها في العناية المركزة، لكنها لم تعد تتذكر شيئًا ولم تتعرف علينا (..) قصة أمي طويلة مع المرض بدأت عام 2007 وأصبحت قعيدة على كرسي متحرك واشتد عليها قبل شهر" عبر سماعة الهاتف كانت صحيفة "فلسطين" تستمع إلى صوت القهر المدفون في قلب النائب قبها.

زيارة يتيمة

زيارة يتيمة واحدة هي التي تحملها ذاكرته لوالدته في آخر عامين، تعلق تفاصيلها في حديثه كذلك: "يومها حضرت لزيارتي في منزلي على كرسي متحرك بعد تنسيق، وكانت ظروفها الصحية صعبة" يبتسم في غمرة الألم، قبل أن يكمل: "يومها مكثت عندي قرابة ساعتين، فتوسدت كفة يدها لأشعر بدفئها وغفوت ولم أشعر بمرور الوقت إلا بعد صوت أمي الذي أيقظني: "يما وجعتني"، وكنت دائمًا المحبب إليها أحاول أكون بقربها عندما كانت تأتي وتمكث عندي أيامًا قبل اشتداد مرضها".

وإن رحلت والدته عن الحياة، بقيت كل الآلام ومعاناتها في أثناء زيارات ابنها الأسير وكأنها تلاحقه من سجن إلى سجن وهو يتنقل بينها، يستحضر إحدى تلك الزيارات قائلًا بصوت مختنق بعد أن أنزل الموقف دموعه: "لم تكن تترك زيارة رغم تقدمها بالعمر، لا أنسى زيارتهم لي هي وأبي عام 2008م".

المشهد يومها.. مسن يطرق الواحد والثمانين من عمره يمسك بيديه المرتجفتين مقابض كرسي متحرك تجلس عليه والدة وصفي قبها التي تصغر زوجها بعامين، يسيران ببطء عبر ممر طويل، يسير خلفهما أفراد من شرطة الاحتلال لم يتبرع واحد منهم لمساعدة المسنين، وكأنهم لا يعرفون عن الإنسانية شيئًا، وليس غريبًا ذلك، فبنادقهم لا تعرف إلا القتل.

يتوقف عند تفاصيل المشهد: "كنت أنظر خلف شباك صالة استقبال أهالي الأسرى، غارقًا في دموعي أشفق على والدي وهم بهذا العمر يحرصان على زيارتي طيلة سنوات أسري البالغة أربعة عشر عامًا".

إبعاد قسري

عام 2010 أُبعد قبها عن قريته "برطعة" إلى مدينة جنين قسرًا، بقرار أمني من مستشار قضائي لحكومة الاحتلال، يستحضر قبها صورة الحوار الذي دار بينه وبين ذلك الضابط: "قلت له: سأتوجه للقضاء إلى الاعتراض على القرار، فسخر مني متهكمًا: إذا كان القاضي غريمك لمين بدك تشكي" وأبلغني أن القرار مغطى من المستشار القانوني".

لكن النائب الذي خاض جولات تحدٍ كثيرة مع الاحتلال لم يستسلم للقرار، وبدأ يحاول الدخول عبر الحاجز من خلال هوية "برطعة" فالاحتلال يسمح لأهالي القرية بالمرور عبر الحاجز دون تصريح، لكنه اعتُقل بالمرة الأولى عبر تفتيش "مذل" استمر أربع عشرة ساعة، واستمر التحدي والمحاولات في كل مرة رغم ما واجهه من قسوة وتفتيش واحتجاز في كل مرة يحاول فيها الدخول.

"لولا أن الاحتلال أخرجني منها لما خرجت" يرثي بساتين قريته، وأوديتها وجمال الطبيعة فيها، تسحره أشجار الحمضيات والجميز، يمر من تلك التفاصيل إلى واقع مؤلم يعيشه في إبعاده: "هناك جيل كامل من أقاربي لا أعرفهم، بعض أبناء أخوتي أحيانًا ومن الجيران، لكن لا أعرفهم".

تمددت القرية وتوسعت وزاد سكانها من أربعة آلاف نسمة إلى 12 ألفًا، وأصبحت سوقًا تجاريًّا وشهدت تغييرًا عمرانيًّا، أما النائب المبعد فكان يراقب كل ذلك من خلال صعود أعلى قمة جبل يطل منها على القرية يستطيع الوصول إليها وتأمل كل تفاصيلها، يبكي ذكرياتها على أطلال الحنين والشوق.

دفع النائب قبها ثمنًا كبيرًا لفوزه في الانتخابات التشريعية ضمن كتلة "التغيير والإصلاح"، فقد أصبح النائب مشروع اعتقال وكبش فداء من أجل حرية وكرامة الوطن وهو يحمل هموم الشعب الفلسطيني، ويقول كذلك: "النواب قدَّموا تضحية كبيرة: أُسِروا، وسُحبت هوياتهم، وتشردوا، وبات النائب يدفع الثمن لمواقفه سجنًا وغربة وملاحقة".