كلما ظن الصهاينة وداعموهم من قوى دولية أن الوقت قد حان لكي يغلقوا ملف القضية الفلسطينية؛ فاجأهم الشعب الفلسطيني بمعادلة توازن جديدة تقهرهم وتجرّهم إلى ساحات صراع تفضح أكاذيبهم وتعزلهم، وتجعل الفعل الفلسطيني صاحب المبادرة الصحيحة والقوية.
في الضفة الغربية أكثر من 650 حاجزًا صهيونيًّا ثابتة ومتنقلة، وتحيط المستوطنات بالبلدات والقرى والمدن الفلسطينية لتحولها إلى تجمعات (غيتو)، وتحرمها المياه، وتطلق على أبنائها الآمنين غوائل الهمج المستوطنين وخنازيرهم على مزارعهم، وتغير قوات الأمن الصهيونية من حين إلى آخر لاعتقال أو اغتيال من تريد من أبناء المخيمات والمدن والقرى الفلسطينية دون رادع ولا تراجع.
وعلى قطاع غزة تفرض القوى الغاشمة حصارًا خانقًا، وفي الداخل يضاف آلاف الخريجين والعمال إلى قوائم البطالة المتزايدة، ليرتفع معدل الفقر إلى أكثر من 90 من المائة، حسب إحصائيات أجنبية، في حين بلغ العوز مداه مؤثرًا على الحياة الاجتماعية والأمنية في القطاع المنكوب بحروب ثلاثة، استخدمت فيها القوات الصهيونية أحدث أنواع الأسلحة المحرمة دوليًّا.
وفي العمق الفلسطيني تواصل السلطات العنصرية كل أساليب الميز العنصري و"التطهير العرقي" ضد أبناء الوطن المتشبِّثين ببلداتهم وقراهم، وتجمع العديد من القرى في مناطق (غيتو) شبيهة بمحميات الهنود الحمر، في حين ترتفع الأصوات الصهيونية من حين إلى آخر بلزوم طرد العرب الفلسطينيين خارج أراضي الـ(48) محافظة على "يهودية الدولة".
وفي الشتات الفلسطيني حيث مخيمات لبنان المحاصَرة والمهدَّدة بالتجريف والتدمير، التي تحولت إلى تكايا ألم ومعاناة مخنوقة، فلا حياة فيها، يفر من يستطيع من أبنائها الشباب إلى الهجرة في عملية إصرار على الحياة، يتحول المهاجر فيها إلى مصدر معيشة لأسرة تركها خلفه تئن تحت وطأة العنصرية الطائفية في لبنان. ومازالت المخيمات تنتظر ما لحق بمخيم نهر البارد، وبكل الذرائع المغشوشة يتحرش من حين إلى آخر بالمخيمات، ولن يهدأ لهم بال حتى يدمروا كل المخيمات ويطردوا الفلسطينيين من لبنان.
في كل مكان يواجه الجسد الفلسطيني عنتًا ليس له حد، والوضع الرسمي الفلسطيني في حال ليس أقل سوءًا من هذا؛ فقد انهار الظهير العربي وهرول إلى العدو يعلن له الثقة والولاء، كما لم يحدث قط في أي يوم من الأيام. فأصبح السياسي الفلسطيني مجردًا من كل أدوات الضغط العربية الرسمية حتى تلك الشكلية، ويعاني الوضع الرسمي الفلسطيني من انخراط المنطقة في الفوضى الخلاقة ومستتبعاتها، وهو في هذا يفتقد القدرة على المناورة والضغط، في حين تواجه المقاومة الفلسطينية أقسى أيامها لغياب الظهير العربي، وتضطر من حين لآخر إلى التلويح بكلمات، لعلها تستطيع أن تثقب في الجدار الرهيب المضروب حولها مخرجًا.
مع كل هذا الشعب الفلسطيني سيرمي بكل المرحلة المهزلة خلف ظهره، ولن يوقع سواه إلا عدم علاقتهم بفلسطين، ولن يكون لأحد مكانة الكرامة والزعامة والسيادة إلا أولئك الذين كانت بوصلتهم القدس، ولم يقدموا الولاء لأعداء الأمة، ولم يستبدلوا بالمقاومة الخنوع، شعب فلسطين صانع الانتفاضات والإضرابات والمقاومات بكل أشكالها لن يتنازل عن حق العودة إلى أرضه، ولن يتنازل عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وهو في هذا كله يدرك أن وحدة الصف الفلسطيني وتقوية جبهته الداخلية هما الرهان الوحيد في هذا الزمن الأغبر، تولانا الله برحمته.