عندما وقَّعت (إسرائيل) مع بعض الدول العربية ما يسمى اتفاق أبرهام، فإن واحدة من أهم المواد التي تضمَّنها هذا الاتفاق كانت تقضي بتسهيل ما يسمى "السياحة الدينية" للمسلمين إلى الأماكن المقدسة في القدس.
والكلام هنا بالطبع عن المسجد الأقصى المبارك. وقدمت حكومة بنيامين نتنياهو هذا الاتفاق على أنه الطريق لإخراج بقية الدول العربية من ميدان الصراع بما يجعل الفلسطينيين في القدس وفي باقي الأراضي الفلسطيني معزولين تمامًا عن محيطهم العربي في مواجهة دولة الاحتلال.
ينطوي الاهتمام الإسرائيلي على فكرة "السياح" العرب المسلمين إلى مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك على مصلحة إسرائيلية خالصة، فترى دولة الاحتلال أن تكييف قضية القدس وتحويرها لتكون مرتبطة فقط بموضوع زيارة الأماكن المقدسة يساهم بتغيير طبيعة الصراع على المدينة المقدسة بما يتوافق بالكامل مع الرؤية التي قدمتها الإدارة الأمريكية السابقة.
هذه الرؤية كانت تعتمد بالدرجة الأولى على اعتبار أن مشكلة المسلمين مع قضية القدس ليست الاحتلال، وإنما السماح لهم بزيارة الأماكن المقدسة ودخولها فقط. فتحاول (إسرائيل) منذ احتلال المدينة تغيير الوضع القانوني لها وتحويلها من أرض ترزح تحت الاحتلال غير المعترف به دولياً إلى مدينةٍ إسرائيليةٍ يهوديةِ الطابع تعاني مجرد نزاعٍ صغيرٍ على إمكانية الدخول إلى الأماكن المقدسة فقط.
بالطبع لا بد هنا من التذكير بأن ما يقصده الاحتلال بالأماكن المقدسة الإسلامية مختلف تماماً عما يقصده المسلمون بها، لأن تعريف المسجد الأقصى إسرائيلياً وأمريكياً لا يتجاوز حدود مبنيين فقط داخل المسجد الأقصى المبارك الحقيقي، وهما الجامع القبلي الواقع جنوب المسجد الأقصى، وقبة الصخرة الواقعة بقلب المسجد الأقصى. وهذا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي يختزل من مساحة المسجد الأقصى المبارك ما يتجاوز 94% لتصبح مجرد ساحات عامة يمكن للجميع دخولها.
بهذا الصدد كان مركز القدس للشؤون العامة بالقدس (وهو مركز بحثي تشرف عليه حكومة الاحتلال ويضم نخبة من المفكرين والأكاديميين والصحفيين الإسرائيليين) نشر دراسة حول زيارات المسلمين للأقصى، للباحث الإسرائيلي نداف شراجاي، وهو كاتب بصحيفة (إسرائيل هيوم) المقربة من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
هذه الدراسة التي نشرت نهاية 2020 تحدثت عن فكرة زيارة الأماكن المقدسة للمسلمين في القدس من دول التطبيع العربي، وواجبات دولة الاحتلال للتحضير لهذه الزيارات. وفيها يقدم شراجاي توصيات لحكومته لتسهيل هذه القضية وترتيبها بين الأطراف التي تتعامل مع قضية السيادة والوصاية على المسجد الأقصى المبارك. شراجاي يطرح توصيات لم نكن لنهتم بها لولا أننا وجدنا أن سلطات الاحتلال كما يبدو تنفذها فعلياً على الأرض.
فمن ضمن توصيات شراجاي الهامة توصية بإجراءات أمنية إسرائيلية استثنائية لتمهيد الأرض للسياح المسلمين من هذه الدول لدخول المسجد الأقصى، ومنها ضرب الجهات الإسلامية التي يعتبرها "متطرفةً" بالمسجد الأقصى المبارك، ويشير بذلك إلى جهات سماها بالاسم: مثل المرابطين والحركة الإسلامية الشمالية داخل الخط الأخضر برئاسة الشيخ رائد صلاح، إضافةً إلى الشيخ د. عكرمة صبري رئيس الهيئة الإسلامية العليا، وأفراد حزب التحرير.
وهذه التوصية في الحقيقة نراها حالياً تطبق في قسمها الأول على أرض الواقع بالأقصى، فنرى التضييق التام على حركة المرابطين وكل من يقف موقف الرفض من الاقتحامات الصهيونية للمسجد الأقصى وتلك العربية المساندة لها، ويبدو أن ميدان هذا الصراع حالياً يبرز بأقصى تجلياته في المنطقة الشرقية للمسجد وحول باب الرحمة. كما شرعت سلطات الاحتلال منذ أسابيع الاستهداف الممنهج لشخص الشيخ عكرمة صبري واعتقاله مراراً وإعطاءه منعاً متكرراً من دخول الأقصى. وحسب هذه الرؤية سيستهدف لاحقاً أفراد حزب التحرير بالقدس، وهذا الحزب رغم أنه ليس بذلك التأثير في التطورات السياسية بالقدس -باعتباره ينتهج منهج الاستنهاض النخبوي والفكري لفكرة الخلافة- فإنه عندما يتعلق الأمر بالدول العربية فإن له أثراً مهماً، فالاحتلال كما يبدو لم ينسَ مهاجمة أفراد الحزب لوزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر للمسجد الأقصى عام 2009، إذ انفرد الحزب يومها بالتعامل الحاد مع هذا الوزير تبعاً لرؤية الحزب للأنظمة العربية، وهو ما يختلف عن المواقف الأخرى للحزب بمواجهة الاحتلال، التي تتخذ طابعاً عاماً يدور مع الرؤية الشعبية العامة من دون إبراز دورٍ خاص به.
ويبدو أن شراجاي يفهم هنا طبيعة حزب التحرير التي تميل إلى التشدد بردود الفعل في الحالة العربية أكثر من غيرها، الأمر الذي قد يحرج سلطات الاحتلال أمام "ضيوفها" العرب ويؤدي إلى فشل المساعي الإسرائيلية بهذا المجال.
هذه التوصيات تبين أن (إسرائيل) تتعامل مع مواطني دول التطبيع العربي بشكل خاص جداً، وليست معنيةً أساساً بفكرة "الزيارة" للمسلمين بشكلها العام. فدولة الاحتلال على سبيل المثال تعلم أن الحكومة التركية تحرص على الزيارات المنتظمة للأتراك إلى المدينة المقدسة، لكنها لا تنظر إلى الأتراك في القدس نظرتها إلى القادمين من دول التطبيع، فهم يعرفون أن الأتراك عندما يأتون إلى القدس فهم يسببون صداعاً لسلطة الاحتلال، لأنهم عندما يدخلون إلى القدس يحرصون على أن ترتبط زيارتهم بمقاومة الاحتلال، وقد شهدنا عدة حالات تظاهر فيها مواطنون أتراك عند بوابات المسجد الأقصى وأدخلوا بعض الممنوعين من المقدسيين المسجد الأقصى رغم منع الاحتلال، وشهدنا احتكاكات بين الأتراك والإسرائيليين بمنطقة المسجد الأقصى وحولها في القدس بل واعتقالات في بعض الأحيان.
هذا الأمر يختلف تماماً عن دول التطبيع العربي التي تحرص عندما يدخل مواطنوها هذه المدينة أن يقدموا صورةً حميميةً للعلاقة مع (إسرائيل)، من ذلك كانت الزيارة التي شاهدها العالم أجمع لبعض وفود الإمارات والبحرين إلى القدس، التي حرصت على دخول منطقة حائط البراق والاحتفاء مع الإسرائيليين في هذه المنطقة بإحدى المناسبات الدينية اليهودية، بل ودخول الأقصى من باب المغاربة الذي تخصصه (إسرائيل) لغير المسلمين منذ أن سيطرت عليه قوات الاحتلال بالقوة عام 1967.
هذا الأمر يؤكد لنا أن ما يحدث حولنا غير بريء، ولا شك أن من يتعاون مع سلطات الاحتلال اليوم فيما يتعلق بتهويد القدس أو تأكيد سيادة إسرائيلية احتلالية غير شرعية عليها هو شريك للاحتلال بهذه الجريمة، ولهذا فمن الطبيعي أن يعتبر كل من يدخل المسجد الأقصى بهذه الظروف وبهذا الشكل مقتحِماً للمسجد الأقصى لا زائراً له. ويبدو أن التخوف الذي أبداه الشيخ رائد صلاح مرةً في إحدى وسائل الإعلام العربية أصبح الآن حقيقة واقعة، عندما علَّق على دعوات السلطة الفلسطينية وبعض الأطراف الأخرى المسلمين جميعاً لزيارة الأقصى قبل 10 سنوات، وأبدى خشيته أن تتحول قضية المسجد الأقصى المبارك من تحرير إلى زيارات وفيزا.