بعد سنوات من الانقسام والمناكفات السياسية تشكّل وعي جمعي فلسطيني مشوّه، وبات النقد والاختلاف هما السمة الأبرز في الحالة الفلسطينية، وأصبح ما سبق هو البيئة الطبيعية في تحليل الأشياء، إلى أن جاء خبر وفاة القائد عمر البرغوثي بسبب فيروس كورونا. ربما لم يكن أبو عاصف معروفاً لكل مكونات شعبنا الفلسطيني، لا سيما في قطاع غزة، ولكن الملاحظة الملفتة للانتباه أن أغلب جماهير شعبنا الفلسطيني نعت الرجل، وقلما تجد صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي لم تنقل صوره وفكره السياسي وجنازته التي بحاجة إلى قراءة سياسية من حيث حجم المشاركة التي لم تعتدها رام الله إلا في جنازات العظماء، وهذا يطرح تساؤلا: ما سبب حب الجماهير لعمر البرغوثي، وهو ليس نجماً تلفزيونياً أو مسئولاً حكومياً...؟ وما هي القراءة السياسية لحجم المشاركة في جنازة أبو عاصف...؟
أبو عاصف لا يمتلك بنكاً يوزع منه المال أو الطرود الغذائية على المواطنين، ولا هو مسئول حكومي يوزع الوظائف والترقيات ولقاح كورونا على عظم الرقبة، ولا هو نجم تلفزيوني يتنقل بين الفضائيات والإذاعات، ولا مطرب يعشقه الشبان، وبما أنه لا هذا ولا ذاك فلماذا كل هذا الاحتضان الشعبي...؟
هذه كلمة السر التي تعيد الأمل للمشروع الوطني الفلسطيني، وتؤكد أن شعبنا بخير، على الرغم من كل المحاولات التي تستهدف الوعي الجمعي الفلسطيني، وتعمل على بناء الفلسطيني الجديد، إلا أن الجزء الأكبر من شعبنا مغروس بالقضايا الوطنية وبالهم الوطني الذي كان السمة الأبرز لشخص عمر البرغوثي أبو عاصف، كيف لا وسيدي عمر كما يحلو لمحبيه أن ينادوه هو والد شهيد وأسير وشقيق الأسير نائل البرغوثي، وهو نفسه دخل الأسر أكثر من مرة، ومن يتابع قصة عمر يظن أنه يقرأ قصص الصحابة والتابعين، لأن المحن التي تعرض لها تشبه المحن التي تعرض لها الصحابة، والثبات على القيم والمبادئ قلما تجدها في المجتمعات البشرية الحالية، ولذلك أنت تتعامل مع نوع آخر من البشر أحبه الله فحبب عباده فيه.
كان بإمكان عمر البرغوثي أن يكون من قيادات هذا الشعب، وأن يتلقى الرواتب والرتب والحوافز، وأن يوزع لقاح كورونا على الأحباب والأقارب، وأن يشتري الولاءات هنا وهناك، ولكنه اشترى دينه بدنياه، واشترى وطنه الكبير ببيته الصغير، واشترى شعبه الكبير بعائلته الصغيرة، فنعاه كل مكونات شعبنا.
عمر البرغوثي رجل الوحدة الوطنية، أكرمه الله بأن يشارك الجميع في جنازته، وزاده الله كرماً بألا يشارك بعض المنافقين في هذه الجنازة، فكانت جنازته لوحة وطنية، شاركت فيها فلسطين بكل ألوانها السياسية، وأبرقت جنازته رسالة للعالم أجمع أن المراهنة على قتل الروح الوطنية لشعبنا رهان خاسر، فكل الوسائل المستخدمة لضرب الروح الوطنية في الشعب الفلسطيني باءت بالفشل، وعكست نفسها في المشاركة المهيبة بالجنازة، التي لولا تحدي كورونا ربما لخرجت الضفة الغربية بأكملها، ولو سمحت الظروف لالتحمت غزة معها لتشييع هذا البطل.
لقد عشت كبيراً سيدي عمر، وانتقلت إلى رحمة الله عظيماً، وكانت وفاتك إحياء الروح الوطنية الوحدوية في كل أرجاء فلسطين، رحمك الله يا صديقي ورحم الله الدكتور عدنان أبو تبانة الذي لا يقل عطاءً وحضوراً وتضحيةً، والتعازي لشعبنا بوفاة رجل العلم والمعرفة الدكتور ماجد الفرا، ثلاثة أقمار فقدتها فلسطين، لتلحق بالقمر الرابع البروفيسور عبد الستار قاسم، وما أكثر الأقمار في شعبنا. رحم الله الجميع.