فلسطين أون لاين

17 عامًا على استشهاده

تقرير شيخ الجهاد والمقاومة "أحمد ياسين".. المؤسس المُلهم يتحدى الاحتلال شهيدًا

...
الشيخ المؤسس أحمد ياسين (أرشيف)
غزة/ يحيى اليعقوبي:

قعيدٌ لديه رخصة بعدم العمل، آثر أن يكون في مقدمة العاملين، أثبت للعالم أن الإعاقة ليست بالجسد فلم تمنعه الإعاقة من أن يصول ويجول بكرسيه المتحرك في فلسطين وخارجها حاملًا همَّ الوطن ومأساة اللاجئين، ومرسخًا دعائم حماس ببناء تنظيمي فريد أسسه كأوتاد جبالٍ أو كنخل لم ينحنِ أمام عواصف مخططات اجتثاثها عبر مراحل عديدة.

عاش الشيخ أحمد ياسين حياة مفعمة بالمعاني الإنسانية، استأنف منهج الدعاة إلى الله على بصيرة، وأعد للمقاومة عدتها، حافظ على وحدة وتماسك الشعب الفلسطيني، وعبَّر عن رفضه لاتفاقية أوسلو، في الوقت الذي كان يرى عبثيَّة "الانشغال بعمليات الترقيع"، وذكَر الغرب بالتزاماته الإنسانية.

فعن كرسيه كان إمامًا أحيا أمته، وقائدًا وطنيًا لشعبه، ومؤسسًا فذًّا لحركة حماس، تحدى الاحتلال في حياته، وما زال يلاحق الأخير بعد استشهاده بمبادئه ومفاهيمه التي غرست وتفرعت بها أغصان شجرة حماس التي زرع بذورها ورواها حتى تجذرت في الأرض، وبات من المستحيل اقتلاعها.

الشيخ ياسين الذي ملأ اسمه أسماع الدنيا وهو ضعيف البنية قوي العزيمة، تحل الذكرى السابعة عشرة لاستشهاده بعدما اغتالته طائرات الاحتلال الإسرائيلي، فجر يوم الـ 22 آذار/ مارس 2004، بعد خروجه من صلاة الفجر، في مسجد "المجمع الإسلامي" بحي الصبرة، في مدينة غزة القريب من منزله، واستشهد برفقة تسعة من المصلين.

تمثل الذكرى فرصة للإبحار في أقواله الخالدة التي وإن كان قد رحل جسده ولكن بقيت سيرته وأقواله ومبادئه التي غرسها في نفوس الأجيال التي نهلت من علمه وأخلاقه حية لا تموت، حتى باتت حماس التي أسسها الشيخ كبرى الحركات الفلسطينية لا ينكر وزنها السياسي والعسكري خصومها أو حتى أعداؤها الذين يحسبون لها ألف حساب.

"أملي أن يرضى الله عني، ورضاه لا يكتسب إلا بطاعته، وطاعة الله تتمثل في الجهاد من أجل إعلاء كلمته ومن أجل تطهير أرض الله من الفساد الذي يقيمه أعداء الله في الأرض، فإذا ما حققت الهدف الأول، وهو تطهير الأرض الإسلامية من الاغتصاب، وقام عليها النظام الإسلامي فهذه هي أمنيتي التي أسعى إليها، وأرجو الله أن ألقاه عليها، فإذا تحققت فذلك فضله، وإن مت قبل أن تتحقق فقد بدأت الطريق وخطوت خطوات، والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون".. بهذه الأمنية –التي تحققت– رحل الشيخ الياسين، تاركًا خلفه سيرة لم يجف عطرها.

نموذج فريد

يصفه الدكتور نسيم ياسين بـ"النموذج الفريد في هذا العصر المتميز بكل ما تحمله الكلمة" سواء في الجانب الدعوي أو الفكري والاجتماعي والعلمي والإصلاحي، فكانت له بصمة في كل المجالات، فكان خطيبا مفوها في المساجد، وداعيا مميزا، أثرت علاقاته الواسعة في بناء شخصيته أو شخصية من يحتك به.

يبحر الدكتور ياسين لصحيفة "فلسطين" في شخصية الشيخ الراحل أكثر قائلا: إن خبرته الواسعة في مجالات متعددة، وتعامله مع العلماء ولجان الإصلاح والدعاة أعطى للشيخ نموذجا مميزا حتى يستطيع تكوين الحركة المجاهدة وتأسيسها، فكانت له بصماته الواضحة في كل المراحل التي أسس فيها حماس".

لكن لم تكن الأرض مفروشة بالورود أمامه بل سار في طريق شائك، يسير به د. نسيم ولكن من بوابة الذاكرة: "بداية كانت انطلاقته بالدعوة إلى الله في مساجد غزة مرورا بالعمل الخيري، وامتدادا للعمل الرياضي الذي ساهم فيه وكذلك العمل الصحي حيث أنشأ رياض الأطفال والمدارس، وساهم في بناء مجتمع متكامل البناء".

مد الشيخ ياسين جسور العلاقات والترتيبات في كل المراحل، ولم يترك المرأة فعمل معها في تأسيس مراكز نسوية لبناء الشخصية النسوية المسلمة، وأثر في بناء الحركة التي ظهرت بصورة كما يراها الجميع حاليا، ورسخ مفاهيم إيمانية بالمجتمع الفلسطيني فكان أثره كبيرا جدا على أبناء حماس.

تنقية وتربية

لم يكن الانضمام لحماس مجرد انتماء، بل يخضع المرء لعملية تنقية وتربية يشرحها د. نسيم: "كان الشيخ يبني الإنسان قبل الانضمام لحماس أخلاقية ويؤسسه على القرآن والأخلاق الطيبة، فهذه الشخصيات كان لها أثر في تنظيم الحركة بشكل متميز على المستوى التنظيمي والجهادي، والعمل الدعوي والمجتمعي، فبنى الأسرة والمجتمع على أسس قوية".

لم يرد الشيخ سائلًا أو محتاجًا، كان سخيًّا في الخير معطاءً حتى لو من ماله الخاص الذي بالكاد كان يكفي لإطعام أهل بيته، ينتقي د. ياسين موقفا من ذاكرته: "زرته في مرة ووجدت أناسا كثرًا يتجمعون حول منزله ويرفعون أصواتهم، فسألته عما يريد هؤلاء الناس، فقال: "يريدون مساعدات"، فقلت لهم ولم لا تعطيهم يا شيخ، فعبر عن أسفه "لا يوجد أي شيء"، طلبت منه الإذن للخروج إليهم وشرح الأمر لهم، لكنه رفض مبقيًا على الأمل: "دعهم لعل الله يرزق"، ولم تمر الجلسة كثيرا حتى جاء رجل وأعطاه مبلغا لتوزيعه على الفقراء ووزعه على هؤلاء الناس، وكان ذلك يتكرر كثيرا مع الشيخ".

سياسيا عُرف عن الشيخ صلابة مواقفه، فشيخ امتاز بما سبق من الطبيعي أنه لم يتنازل عن شبر واحد من تراب فلسطين، حارب الفساد والمفسدين، يقول د. نسيم: "كان صلبًا مع الاحتلال في كل مرة، أذكر وهو بالسجن عرض عليه الإفراج عنه بشرط لكنه رفض قائلا: "لا أريد أن أخرج بشرط" دائما يقول لسجانيه: "لا شرط لكم علي".

في لحظة مفصلية، اجتمع الشيخ ياسين مع رفاقه الستة في تأسيس حماس، على طاولة قرار لإيقاد شعلة "الثورة" التي تغمر قلوب كل الفلسطينيين بعد حادثة دهس نفذها المستوطن الإسرائيلي هرتسل بوكبزا بشاحنة في شمال قطاع غزة، نتج عنها استشهاد أربعة عمال فلسطينيين، تحركت معها عاصفة المواجهة ورمال المعركة في وجه الاحتلال عام 1987.

على تلك الطاولة ورغم أن بعض المجتمعين تخوفوا من احتمالية إغلاق الجامعة الإسلامية بغزة في حال انطلاق المواجهة، كان القرار الحاسم من الشيخ بعد التصويت عليه (أربعة مقابل ثلاثة)، بالتحرك الشعبي ضد المحتل والمواجهة، وصدر أول بيان باسم الحركة، ويومها كُلِّف الشيخ أحمد ياسين بإعداده، وإصداره في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1987م، الذي عدّ يوم انطلاقة".

يعلق الشيخ عيسى النشار وهو أحد المؤسسين، في إثر قرار ياسين الذي جاء بعد تشاور مع رفاقه: "كان القرار واضحًا وحاسمًا بالمواجهة، واستخدمت كلمة انتفاضة لأول مرة في التاريخ المعاصر في البيان (...) القرار غيّر وجه المنطقة وأعاد للقضية الفلسطينية اعتبارها، والأمل لشعبنا في أنه سيتحقق ما يصبو إليه من حرية وعودة للأرض، وانتهت كل المخططات التي عملت على تدجين الشعب الفلسطيني في تلك المدة عبر العمل والتزاور".