فلسطين أون لاين

"ماما تعالي من السجن".. حكاية الرضيع "أحمد" وإخوته

...
غزة-هدى الدلو:

"تساءلت في اليوم العالمي للمرأة: أين حق أمي التي أسرها الاحتلال وهي ذاهبة إلى تجديد (ما تسمى) تصاريح زيارة للسماح لها برؤية أهلها في مدينة حيفا؛ فيحرم سبعة أطفال حنانها وحضنها، أصغرهم لم يكن تجاوز ثمانية أشهر من عمره؟! أيتصور أن هناك حياة من دون الأم؟!" كلماتٌ بصوت باكٍ متقطع لا يكاد يُسمع لأميرة (17 عامًا) ابنة الأسيرة نسرين أبو كميل.

بعودة خاطفة بذاكرتها إلى ذلك اليوم الذي وصفته بـ"المشئوم" تذكر أن والدتها تلقت اتصالًا هاتفيًّا من مخابرات الاحتلال الإسرائيلي للحضور إلى حاجز بيت حانون جنوب قطاع غزة، بدعوى تسلم ما تسمى "تصاريح للسماح" لها ولزوجها بدخول الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948.

في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2015 كانت أميرة لم تتجاوز 12 عامًا، لكنها تقول لصحيفة "فلسطين": "(الإشي ما بنتسى)، خرجت والدتي قبل صلاة الظهر، وأخبرتني بذهابها إلى الحاجز لتسلم التصاريح، وطلبت مني أنتبه لإخوتي الصغار إلى حين عودتها، وأوصيتها بألا تتأخر من أجلنا وأجل أخي أحمد الرضيع".

جلست تنتظر والساعة تلاحقها أخرى، حتى بدأ الليل يسدل ستاره دون عودتها، حاولت أن تتقلد دور أمها في البيت فتسكت أخاها الصغير، وتطعم أختها، وتحاول طمأنة الثالث حتى لم تستطع أن تقوى على التحمل، فجلست تبكي منتظرة عودة والدها من عمله، عله يحمل خبرًا من والدتها.

تتابع أميرة: "رجع أبي مصدومًا بعدم عودتها حتى هذا الوقت، وكانت لا ترد على اتصالاته بها، وبعدها رن هاتفه فإذا ضابط مخابرات الاحتلال يخبره بطريقته الجافة: "مرتك معتقلة لدينا"، انصدم والدي وسأله عن السبب فلم يجبه واكتفى أن يقول له: (يا حتروح بكرة أو حتبقى هنا)".

وفي أثناء التحقيق عذبت الأسيرة نسرين بتقييد يديها وتغمية عينيها، وتفتيشها وإهانتها، وعزلها بزنازين.

ووالد أميرة "حازم أبو كميل" كان قد أخفى مصير أمها عنها وعن إخوتها، واكتفى بأن يخبرهم أنها في زيارة إلى بيت جدهم بحيفا، ولكن أميرة فقدت عادة أمها بالاتصال بهم مرات عدة للاطمئنان عليهم وهي هناك، وسألته عن سبب ذلك فرد عليها: "الاتصالات هناك بها مشكلة، وعندما تنتهي ستهاتفكم".

وبعد أسبوع من الانتظار والشوق لأي رنة هاتف بأن تكون والدتهم المتصلة، رن هاتف الأب وكان بعيدًا عنه، فتسابقت هي وأخوها فراس الأكبر منها نحوه علها تكون هي، فكان المتصل "محامي نسرين"، توقفا وكأن قلبهما توقف لحظة فحمل أحدهما الهاتف لوالدهما، وبعد انتهاء المكالمة سألاه: "من المتصل؟"، فأخبرهما بما جرى.

"كانت الصدمة حينها، لم أعرف أبكي أم أصرخ، ماذا أفعل؟ والأفكار والهواجس أصبحت تأخذني لمكان وتعود بي إلى آخر، خاصة أن المحامي أخبر والدي بموعد أول محاكمة، لنجلس على أعصابنا؛ فهمُّ أمي، وهمُّ أمور البيت وإخوتي الصغار، ودروسي".

تحملت أميرة أعباء ومسئوليات تفوق عمرها، فالأسابيع الأولى لأسر والدتها وصفتها بأصعب أيام حياتها: "فأخي الصغير افتقد أمي وبحث عنها في كل مكان بالبيت، وأصيب بحالة إعياء دخل في إثرها المستشفى عدة أيام، فزاد من الأعباء الملقاة علي".

بدأت السماء تمطر

وأكثر ما آلمها ذهابها إلى المدرسة دون كتابتها الواجب ودراستها للامتحان؛ فتراجع مستواها الدراسي، وفي أثناء وجودها بالمدرسة تفكر في شئون البيت وكيفية تدبير أموره، تستذكر: "في أحد أيام الشتاء كنت نشرت غسيل إخوتي قبل الخروج للدوام، وفي أثناء الحصة الدراسية بدأت السماء تمطر، فاستأذنت معلمتي سريعًا للذهاب إلى المديرة لإجراء اتصال هاتفي بوالدي ليرفع الغسيل عن الأحبال".

وتتابع أميرة: "في تلك السن كان المفترض أن أمارس حياتي الطفولية في اللعب والمرح، أكبر وإخوتي بجانب أمي، ولكن فرضت عليّ واجبات ومسئوليات كأن أعد الحليب لأخي الصغير، وأجهز أمور البيت".

وبعد تأجيل محاكمتها مرات عديدة حكم عليها الاحتلال بالسجن ست سنوات، ومن ذلك الوقت تنبش نسرين بذاكرتها عن صور لصغارها الذين يكبرون بعيدًا عن عينيها، وأطفالها الذين يفتقدون حنانها، ووجودها في مناسباتهم، كشهر رمضان الذي افتقد تزيينها المائدة، وكسوة العيد، ونجاح ابنها في الثانوية العامة.

مرت الأيام والشهور والسنوات دون أي تواصل بينهما، لتأتي أول مكالمة بعد ثلاث سنوات، تسلل الفرح والألم في آن واحد إلى قلب أميرة، بمجرد سماعها صوتها لم تتمكن من أن تتلفظ بأي كلمة وكان البكاء سيد الموقف، وسمعتها توصيها بالاهتمام بدراستها، فلا شيء ينفعها سوى علمها.

وعبر إذاعات محلية ترسل أميرة وإخوتها رسائل إلى والدتهم للاطمئنان على صحتها، رغم أنهم لا يجدون ردًّا، حتى أحمد الذي بلغ خمسة أعوام يقلد إخوته دون وعي منه، ويقول لها: "ماما تعالي من السجن ما تضلي هناك"، كما أن الطرفين يكتفيان بإرسال صورهم مع من يستطيع من أهالي الأسرى زيارة أبنائهم.

يحرم الاحتلال بعض أهالي الأسرى زيارة ذويهم، ويتكبد البقية عناء الانتقال عبر ما تسمى "البوسطة" ساعات طويلة وهم مكبلو الأيدي والأرجل، من أجل زيارة لا تتجاوز 10 دقائق ويفصل بينهم شبك حديدي وزجاج.

قضت الأسيرة نسرين من محكوميتها خمس سنوات ونصف، وتنتظر أميرة مرور الأشهر الستة المتبقية على أحر من الجمر، لتشطب آخر يوم في عداد محكوميتها.