منذ بدايته عام 1948م مارس الاحتلال الإسرائيلي سياسات تمييز عنصري واضح ضد الفلسطينيين بهدف تهويد كل ما هو عربي أو فلسطيني، فعمد إلى تهجير السكان وصادر أراضيهم، مستخدمًا كل الأساليب الإرهابية عبر المجازر ضد القرى والمدن الفلسطينية، وتعمد إظهار وحشيته عبر المنظمات الصهيونية التي لم تترك جريمة إلا وارتكبتها ضد النساء والأطفال والرجال المدنيين، وشواهد ذلك كثيرة قبل النكبة بغطاء من الاحتلال البريطاني وبعدها بصمت الدول الاستعمارية.
وقد حظيت مدينة القدس بتركيز عالٍ، فمنذ اليوم الأول لاحتلال المدينة عمد جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 إلى تغيير معالمها الإسلامية والعربية، وتزوير آثارها التاريخية لخدمة المشروع الصهيوني، فهدم حي المغاربة بأكمله واتخذ من "حائط البراق" مكانًا لليهود وسماه "حائط المبكى"، حتى إنه يمثل مزارًا لكل من يدعم الاحتلال، من السياسيين أو المشاهير.
وقد استخدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسات وقرارات عنصرية ضد الفلسطينيين في القدس، منعت السكان من إصدار تراخيص بناء جديدة بهدف تحجيم وتقليص الوجود السكاني الفلسطيني في المدينة، ومع الزيادة الطبيعية للعائلات الفلسطينية وحاجتهم لتوسعة بيوتهم وشققهم السكنية يضطرون إلى البناء، فتصدر بلدية الاحتلال قرارات هدم تعسفية، وتلزم صاحب البيت بدفع تكاليف الهدم التي تتجاوز تكلفة البناء نفسه، فيضطر إلى هدمه بيده.
حتى من يرِد ترميم بيته فقد ألزمته بإجراءات بيروقراطية تستمر إلى سنوات قبل الموافقة عليها، إضافة إلى سياسات ترحيل قسري (ترانسفير) تقوم على استبدال مستوطنين يهود بالسكان الأصليين، مستخدمين إرهاب الدولة، المتمثل في الجيش والشرطة، والبلديات والمحاكم، فقرارات المحاكم الإسرائيلية جزء من منظومة الاحتلال التي تشرع القتل وتبرئ مرتكبي الجرائم والمجازر ضد الفلسطينيين، وتقبل تهجير السكان بمستندات مزورة.
واليوم تواجه 28 عائلة مقدسية في حي الشيخ جراح تهديدًا بالتهجير وهدم بيوتهم التي منحتهم إياها الحكومة الأردنية، فولدوا وعاشوا فيها قبل أن يولد الاحتلال، وهؤلاء نموذج للفلسطينيين الذين صمدوا على أراضيهم عام 1967م بعد أن هجرتهم العصابات الصهيونية عام 1948م.
في مقابل تلك السياسات تواصل الحكومات الإسرائيلية ومجالس المستوطنات بناء آلاف الوحدات السكنية، وتوسيع المستوطنات التي أصبح بعضها في مستوى مدن، تملك بنية تحتية تجارية وصناعية وزراعية قادرة على قتل أي مستقبل فلسطيني في النمو السكاني أو الاقتصادي، وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إن 47% من مستوطني الضفة الغربية يسكنون في مدينة القدس، حيث تشكل نسبتهم إلى الفلسطينيين 70 مستوطنًا مقابل كل 100 فلسطيني، في حين في محافظات الضفة نحو 23 مستوطنًا مقابل كل 100 فلسطيني.
وحشية الاحتلال وصلت إلى حد إجبار الفلسطيني على هدم منزله بيده، ليتجنب دفع غرامات باهظة وأجور مضاعفة تفرضها قرارات المحاكم الصهيونية، التي تمارس التمييز العنصري ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق نفوذ القوانين المدنية، فمن المعلوم أن (إسرائيل) لا تطبق الأحكام المدنية على مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، بل تطبق أحكامًا عسكرية تعسفية ترجع لزمن الاحتلال البريطاني، وفي القدس -خاصة- لا تطبق القوانين المدنية نفسها على الفلسطيني كما هي على اليهودي.
إن صمود الفلسطيني في القدس يمثل إرادة نحو ملياري مسلم في العالم بينهم نصف مليار عربي؛ يمتلكون كل الحق التاريخي والإنساني والقانوني في فلسطين ودرتها مدينة القدس، التي تعد ميراث أجدادهم وميزان قوتهم وطهارة شرفهم وكرامتهم، فهل يبقى هؤلاء وحدهم يواجهون وحشية الاحتلال وزبانية المحاكم الإسرائيلية؟! وكيف يمكن أن تتحول إرادة الصمود الفلسطيني إلى إرادة المسلمين والعرب، رغم مآسيهم وآلامهم المحلية؟ هل يمكن أن تكون زيارات تلك الملايين إلى الأقصى والمقدسات داعمًا لصمود أهل القدس اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا؟
تلك أسئلة تحتاج إلى إجابات فردية وجماعية وحكومية، وإلا فإن صمتنا هو ما يمنح الاحتلال غطاء لاستمرار تمييزه العنصري، وتماديه في التعسف والإرهاب ضد الفلسطينيين ومقدسات الأمة العربية والإسلامية، التي يدنسها التهويد الإسرائيلي كل لحظة.