ثلاثة بازارات سياسية للتسوق شهدها شهر أيار الحالي عاكسة حجم التجاذب والمنافسة بين القوى الدولية الكبرى على رأسها بكين وموسكو وواشنطن؛ فالبازار الأول عقد في بكين وضم أكثر من 130 دولة للتسويق لمشروعها اللااقتصادي ذي الأبعاد الجيوسياسة ممثلا بمنتدى "حزام واحد طريق واحد" بتاريخ 14 و15 أيار الحالي؛ تبعه بازار روسي أقامه الرئيس بوتين في "غروزني" عاصمة الشيشان تحت عنوان الاجتماع الدوري الثالث لمجموعة الرؤية الإستراتيجية "روسيا– العالم الإسلامي" بتاريخ 16 و17 أيار؛ والذي سيتبعه قمة اقتصادية في "قازان" عاصمة تترستان بعنوان "روسيا- العالم الإسلامي" التي ستجري في 18-20.
بازارات التسوق السياسي في العالم الإسلامي ستبلغ ذروتها بوصول ترامب إلى المنطقة؛ إذ يتوقع أن يلتقي ترامب بزعماء خمسين دولة عربية وإسلامية في الرياض في أثناء زياراته المرتقبة في العشرين من الشهر الحالي أيار؛ ليعقد ثلاث قمم الأولى مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ثم قمة تضم قادة دول مجلس التعاون الخليجي ثم قمة ثالثة تضم قادة الدول العربية والإسلامية؛ بازارات توحي بوجود صراع سياسي واقتصادي وتجاذبات على القيادة الدولية السياسية والاقتصادية محورها العالم الإسلامي وغطاؤها السياسي يذهب نحو أهداف متوازية الأول يتعلق بالتنافس على قيادة الحرب العالمية على الإرهاب والثاني يتعلق بقيادة الاقتصاد الدولي.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكد في اجتماع غروزني أن العالم الإسلامي يستطيع الاعتماد بشكل كامل على دعم روسيا، وأن موسكو مستعدة لتعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين في محاربة الإرهاب وتسوية النزاعات؛ في حين أن ترامب يحضر نفسه لتقديم خطاب موازٍ يكرس قيادة الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الحرب التي تخاض لصالح العالم الإسلامي ومستقبله؛ مسألة باتت مربكة جدًا ومثيرة للاهتمام فنحن أمام بازارات ومهرجانات سياسية حقيقية تقدم فيها العروض وتوظف لها الكثير من الموارد والأصول السياسية والاقتصادية والعسكرية.
فمحاولات التنسيق بين الأطراف المشاركة والدول المعنية باللقاء مع الرئيس ترامب باتت أكثر وضوحًا في الأيام القليلة الماضية؛ فترامب سيحمل رسائل للعالم العربي والإسلامي على وقع الحرب على الإرهاب التي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة؛ ما يدفع نحو السؤال عن مدى قدرة الولايات المتحدة والإدارة الجديدة على رسم معالم إستراتيجية متماسكة تستطيع من خلالها قيادة الجهود السياسية والعسكرية في المنطقة؛ ومدى قدرتها على الاستجابة لمتطلبات الحلفاء الافتراضيين الذين ينتظرون منها عروضا سياسية كبيرة تقابل ما سيقدمونه من تعاون وموارد ممكنة لصياغة الرؤية الإستراتيجية الجديدة التي سيروج لها ترامب في المنطقة.
فالولايات المتحدة ممثلة بالإدارة الجديدة تواجه أزمة داخلية ما إن تخبُ حتى تتجدد تشتبك فيها مراكز القوى الأساسية وينخرط فيها الكونغرس والمؤسسات السيادية في اشتباك مباشر مع إدارة ترامب التي ما إن تتماسك حتى تبدأ بالاهتزاز من جديد على وقع التباينات والصراع السياسي الناشئ عن العامل الانتخابي؛ والتي كان آخرها إعلان هيلاري كلينتون إطلاق حركتها "نحو الأمام" استعدادا للانتخابات البرلمانية المقبلة بعد عام تقريبا من الآن مشككة بقدرة ترامب على طرح سياسة مستقرة ومتواصلة زمانيا ومكانيا.
فالتجاذبات الداخلية الأمريكية باتت أكثر خطورة من ذي قبل خصوصا بعد إقالة "كومي" مدير الـFBI وبعد تسريبات "واشنطن بوست" الأمريكية وصحيفة يديعوت أحرونوت الصهيونية التي تحدثت عن تقديمه معلومات سرية لوزير الخارجية لافروف موحية بوجود تصارع خفي، فالكيان الإسرائيلي لا يقف على مسافة بعيدة منه خصوصا في ظل تلكؤ وتحفظ ترامب في ملف نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والمترافق مع تصارع على ترتيبات زيارته للكيان الإسرائيلي.
وتزداد الأمور تعقيدا في المشهد السياسي لتلقي بظلالها على زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة التباينات الكبيرة والواضحة بين الإدارة الأمريكية وبعض الحلفاء، فالكثير من الملفات لم تحسم بعد رغم إعلان ترامب عن دعمه محاربة تركيا لحزب العمال الكردستاني باعتباره تنظيما إرهابيا؛ إلا أنه لم يحدد آلية التعامل مع باقي التيارات التي ترى فيها تركيا قوى انفصالية مرتبطة بالحزب كحال قوات قسد الكردية الانفصالية في سوريا.
الحال ذاته ينطبق على العلاقات البينية بين الحلفاء والأصدقاء للإدارة والأمريكية بدءا بمصر والعراق والسعودية والإمارات وقطر وعمان؛ وليس انتهاء بالسودان ودول آسيا الوسطى الإسلامية فالملفات والمصالح متعارضة والأجندة متصارعة في كثير من الحالات.
ذات الأمر ينطبق على الموقف من إيران واتفاقها النووي فالولايات المتحدة لم تحسم بعد موقفها من الاتفاق النووي في ظل المعارضة الروسية والأوروبية كدول راعية للاتفاق؛ وفي ظل الانتخابات الإيرانية المقبلة التي ينتظر أن تحسم نتائجها مواقف العديد من الأطراف الدولية وعلى رأسها الأوروبية.
في المقابل يقف ملف القضية الفلسطينية كعقبة كبيرة أمام إدارة ترامب الذي شهدت إدارته أول إرهاصات التوتر مع الكيان الإسرائيلي حول ملف نقل السفارة قبل أيام من وصول الرئيس الأمريكي، فأمام إلحاح نتنياهو تقف الإدارة الأمريكية أكثر تحفظا بإعلان موقف داعم للكيان في ملف نقل السفارة؛ يقود الى استياء عام في الدول العربية والإسلامية ويعيق أي جهود للإدارة الحالية للتعامل مع مبادرات يتم تسريبها بين الحين والآخر من قبل جهات صحافية غير رسمية وغير معتمدة مصادر موثوقة إعلاميا.
في ضوء الإشكالات الواردة يصعب القول إن الإدارة الأمريكية تمكنت من الوصول إلى مقاربة أو رؤية ناضجة للتعامل مع ملفات المنطقة؛ إذ ما زالت تراوح مكانها مضيفة طابعا استعراضيا على زيارة الرئيس الأمريكي الذي يرغب بتحدي منافسيه المحليين الى جانب خصوم الولايات المتحدة بإظهار قدرته على صياغة مقاربة ورؤية إستراتيجية تحدد معالم سياسته خلال السنوات الأربع القادمة من رئاسته المتعثرة.
فرغبة الرئيس كممثل للولايات المتحدة بإظهار قدرة أمريكا على جمع قادة 50 دولة قابله حشد كبير تمكنت الصين من جمعه في منتدى "حزام واحد طريق واحد في بكين طرحت فيه مبادرات اقتصادية وخصصت له موازنات ضخمة استعدادا لإطلاق حقبة اقتصادية جديدة في المنطقة؛ فالصين لم تقتصر مبادرتها على استعراض طموحاتها بل إنها ارتبطت باتفاقات وإجراءات عملية على الأرض تتجاوز مجرد عقد صفقات تسلح هنا وهناك.
في المقابل فإن جهود الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب تواجهه منافسة شديدة من قبل روسيا وحلفائها كما تواجهه معيقات ناجمة عن موقف العديد من الدول الإسلامية والعربية من الكيان الإسرائيلي؛ والأهم تشرذم الحلفاء وتضارب أجندتهم ومصالحهم؛ فالولايات المتحدة الأمريكية تعاني من تجاذبات خطيرة بين ملفات متعددة بحيث بات من الصعب تحديد الأولويات في المنطقة التي اندفعت إليها الصين بقوة اقتصاديا وروسيا بقوة عسكرية فتاكة ظهرت آثارها الواضحة في سوريا ومنازعتها على قيادة الحرب على الإرهاب.
ليس من المتوقع أن يتمكن ترامب من تجاوز أزمة القيادة الأمريكية للعالم والمنطقة فالكلف المترتبة على محاولة استعادة المكانة والتوازن ترتفع يوما بعد يوم على الولايات المتحدة من كوريا الشمالية إلى أوكرانيا ومن سوريا إلى اليمن؛ ورغم ذلك فإن الساحة السورية تبقى الساحة الأقل كلفة سياسيا وعسكريا لاستعراض القوة الأمريكية على عكس الحال في كوريا وأوكرانيا؛ ما يفسر العنوان الأبرز لزيارته الممثل بتدعيم التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب؛ وهذا ما يقلق إيران وروسيا تحديدا في المرحلة.
فسوريا والحرب على الإرهاب هي الرهان الأول بالنسبة لترامب لتحقيق إنجاز في حده الأدنى كمدخل أساس لتحقيق التوازن السياسي مع روسيا وإيران؛ إلا أن أزمة الولايات المتحدة الأمريكية الداخلية المتجددة بين الحين والآخر تجعل من هذا الملف أقل يقينية مما يتوقع البعض المتفائل من عودة النشاط الأمريكي إلى المنطقة؛ كما أن موقع الكيان الصهيوني من الصراع يزيده تعقيدا ويحد من فرصه بالنجاح، مسألة تفسر شيئا من التوتر الأخير الحاصل بين إدارة ترامب وقادة الكيان الإسرائيلي مؤخرا؛ فقدرة ترامب على تجاوز التحديات واستعادة الدور القيادي في سوريا والمنطقة تأتي بعد أن جرت الكثير من المياه في الساحة الدولية والإقليمية جاعلة من كلف استعادة الدور الأمريكي مسألة معقدة جدا تتجاوز حدود الكلف المادية المباشرة نحو خسائر إستراتيجية متراكمة لا يتوقع أن يتمكن ترامب من التعامل معها بفاعلية كبيرة.