في لحظة من الفرح والطُّمأنينة، كان من المفترض أن تكون زيارة عائلة حميد الصَّعيديّ إلى بيت خالهم لحظةً سعيدةً، لكنَّها تحوَّلت إلى كارثة إنسانيَّة مروِّعة، غيَّرت حياتهم إلى الأبد.
ففي الواحد والعشرين من شهر أغسطس/ آب العام الجاري، شعرت زوجة حميد أنَّ الوضع أصبح هادئًا، وقرَّرت الذَّهاب لزيارة شقيقها برفقة أبنائها الخمسة، بعد أيَّام طويلة من القصف المتواصل على منطقتهم في مخيَّم المغازي، وسط قطاع غزَّة، آملين بقضاء وقت هادئ يكسر الخوف في قلوبهم.
يقول الصَّعيديّ: " إلَّا أنَّ الرِّياح جرت بما لا تشتهي السُّفن، ففي لحظة غير متوقَّعة، تعرَّضت المنطقة الَّتي كانوا يتواجدون فيها لقصف عنيف، ما أدَّى إلى استشهاد زوجتي وأربعة من أبنائي، ونجت طفلتي يافا الَّتي لم يتجاوز عمرها 7 سنوات من القصف بأعجوبة، لكنَّ أضرار الحرب تركت بصمات على حياتها وحياة شقيقتيها التَّوأم لميس وتسنيم المصابتين بمرض التَّوحُّد ".
يافا، الطفلة الجميلة التي تحاول بذاكراتها الصغيرة أن تتناسى تفاصيل ذلك اليوم، فقدت أمها وإخوتها في لحظة واحدة. "كان كل شيء هادئًا ثم فجأة، انفجرت السماء"، وفق حديثها. فقد اضطرت للمشي مسافة بعد أن طالت الحروق أجزاء مختلفة من جسدها لتجد من ينقذها. فالقصف دمر كل شيء من حولهم، وأصبحت الحياة بالنسبة لهذه الطفلة مليئة بالفراغ والخوف. "سمعت أصوات الانفجارات، وكانت الأرض ترتجف تحت قدميّ والخوف يهز قلبي، فلم أكن أعرف ما الذي يحدث"، تقول بنبرة محطمة.
أما الصعيدي فلم يكن يعلم ما حل بعائلته في بداية الأمر، وأثناء متابعته للأحداث قرأ خبرًا عن قصف إسرائيلي في المنطقة التي ذهبت إليها عائلته لزيارة أقاربهم، وحينها تداول المتابعون عن استهداف لعائلة زوجته "أبو هدروس".
فلم يصدق الخبر، وتسلل الخوف إلى قلبه محاولًا تهدئته باتصال على زوجته التي لم يجد منها إجابة، فهاتَفَ شقيقها ليخبره باستشهاد زوجته وأربعة من أبنائه. فوقع الخبر على مسامعه كالصاعقة.
يتابع حديثه بحزن: "ليس من السهل تجاوز وجع الفقد، خاصة عندما تتحدث عن غالبية أفراد العائلة، فحتى هذا اليوم لا تزال زوايا البيت، وملابسهم تذكرني بهم، وبأحاديثهم، ونقاشاتنا وضحكاتنا سويًا".
ويصف أن ابنه محمد، البالغ من العمر 13 عامًا، والحافظ لكتاب الله، كان بمثابة "ذراعه الأيمن". فكان كثيرًا ما يعينه في تقديم الرعاية لشقيقتيه التوأم عند غياب أمه عن البيت، ليقدمها دون شعور بالعبء أو المعاناة. وفترة الحرب كان يستثمر وقته في مراجعة القرآن. فقبل استشهاده بأيام قليلة سمَّع له سورة آل عمران والنساء.
ويقول: "حتى طفلتي يافا، التي أجد بملامحها وتصرفاتها وطريقة حديثها خليطًا بين والدتها وأشقائها، تُلح علي الذكريات كلما رأيتها وتبادلنا الحديث، بينما هي تحاول أن تكمل حياتها رغم أوجاعها، باحثة عن بيئة آمنة".
أما التوأمان لميس وتسنيم، اللتان تبلغان من العمر 15 عامًا وتعانيان التوحد، فلم تتمكنا من التعبير عن وجع فقدانهما لوالدتيهما، وهما في أمس الحاجة إلى رعاية وحماية أكثر من أي وقت مضى، في ظل أجواء الحرب والقصف المستمر، حيث أصبح العالم الذي تعيشان فيه أكثر صعوبة وألمًا في ظل عجز العالم من حولهما عن فهم حاجتهما الخاصة وسط هذه الظروف القاسية.
وبعد الحادثة، يشير الصعيدي إلى أن لميس وتسنيم تعيشان في حالة من الفوضى النفسية، حيث لا تعيان تمامًا ما يحدث حولهما، خاصة في ظل ضعف تواصلهما مع عالمهما الخارجي الذي كان محاطًا بالحب والرعاية. أصبح الآن مليئًا بالخوف والحيرة.