27 عامًا مرَّت ولا تزال أحداث مجزرة المسجد الإبراهيمي حاضرة في ذاكرة الشيخ عادل إدريس عندما كان يؤم المصلين حينما انهمر رصاص المستوطن المتطرف "باروخ غولدشتاين" تاركًا خلفه عشرات الشهداء، منهم شقيقه وآخرين ربطته بهم علاقات القرابة والجيرة.
وبرغم الألم الذي خلَّفته تلك الجريمة، يتمسك إمام المسجد (60عامًا) بعمله حتى آخر لحظة في عمره، كما يؤكد لصحيفة "فلسطين".
لم يدر بخلد المصلين الذين كانوا يؤدون صلاة التراويح في الليلة السابقة للجريمة أن تهديدات المستوطنين لهم ستأخذ منحًى جِدِّيًّا، إذ اعتاد مرتادو المسجد منذ هزيمة 67 التعرُّضَ لاعتداءات المستوطنين: كالضرب، والتشويش عبر النفخ بالبوق في أثناء الصلاة.
في فجر الجمعة الموافق 25 فبراير 1994، توجَّه الشيخ عادل إدريس لإمامة المصلين في صلاة الفجر كعادته، ففوجئ والمصلين بمنع المستوطنين النساء على غير العادة من الصلاة في منطقة "الجولية"، ودفعهن للصلاة في "الحضرة الإبراهيمية" ليبعدوهن عن ساحة "الإسحاقية" حيث يصلي الرجال.
وفي أثناء أدائهم "سجدة التلاوة" انهمر رصاص المستوطن غولدشتاين على 450 مصليًا فلسطينيًّا، ليودي بحياة 29 منهم ويصيب 200 آخرين.
يقول ادريس: "لم يكتفِ بالرصاص بل ألقى القنابل، فقد استُؤصلت شظايا من أجساد الجرحى في المشافي الأردنية".
يؤكد إدريس أن عمل "غولدشتاين" ليس فرديًّا كما ادعت سلطات الاحتلال، فقد شوهد 15 مستوطنًا يحمونه في الخلفية وكان يخطط للهرب من باب منطقة "اليوسفية" لكنه تفاجأ بأن حراس الحرم قد أغلقوه فتمكَّن منه المصلون وقتلوه في المكان.
انتشر خبر المجزرة بسرعة في أرجاء الخليل، وصدحت مكبرات الصوت في المساجد لطلب العون للضحايا، فهرع أهالي المدينة لنجدة المصابين، وجاء أيضًا مواطنون من المدن المجاورة قبل أن تفرض قوات الاحتلال حظر تجوال على المدينة، تخللته اشتباكات ومواجهات عنيفة، وفق إدريس.
ويوضح أن المجزرة كانت بداية للسيطرة اليهودية على المسجد، حيث أُغلق ستة أشهر متتالية، وشُكِّلت لجنة "شنغار" التي فرضت تقسيمه، مانحةً المستوطنين 54% من مساحته، ونصبت بوابات إلكترونية حوله، كما أغلق الاحتلال قرابة ألفي محل تجاري في البلدة القديمة للخليل.
و لجنة "شنغار" شُكِّلت بعد المجزرة بعدة أشهر، وقد خرجت بهذا التقسيم لتُظهر للرأي العام العالمي كأنها حلَّت المشكلة بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الإبراهيمي، فكان جزء منه لليهود والجزء الآخر للمسلمين، على أن يُفتح كاملًا للمسلمين في أعيادهم ومثله لليهود.
ويعتصر الألم قلب الشيخ إدريس وهو يرى الاحتلال يتحكم بالمسجد الإبراهيمي الذي روته دماء الشهداء، فيمنع الأذان ما يقارب 55 مرة بالشهر بخلاف منعه نهائيًّا في أيام السبت، في حين لا يسمح سوى للعشرات من المسلمين بالوصول إليه في الصلوات، وبعدد إجمالي لا يتعدى سبعين فردًا في أحسن الأحوال.
ورغم أن الشيخ إدريس فقد شقيقه "سليم" في تلك المجزرة تاركًا وراءه ولدًا وزوجته الحامل، وابن خالته دياب الكركي، في حين أصيب شقيقه وليد وزوج شقيقته- فإنه يتمسك بعمله إمامًا للمسجد، عادًّا إياه شكلًا من أشكال مقاومة تهويد ميراث النبي إبراهيم عليه السلام.
ويشير إلى أن المجزرة التي تركت ألمًا في نفوس كل مَنْ عايشها "ما زالت تبعاتها حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، فالمسجد بات أسيرًا كالأسرى في سجون الاحتلال".
اعتداءات وحواجز
ومنذ وقوع المجزرة، توالت الاعتداءات على الإبراهيمي وأُغلقت البلدية القديمة في محيطه، وأُغلق شارع الشهداء (وسط الخليل)، والذي يعدُّ الشريان الرئيس وعصب الحياة للفلسطينيين، ما أدى لإغلاق 1800 محل تجاري بالبلدة القديمة.
كما منع رفع الأذان في المسجد مئات المرات، وفصلت مدينة الخليل وبلدتها القديمة عن محيطها بقرابة 120 حاجزًا عسكريًا.
وعلى القادمين للصلاة في المسجد من البلدة القديمة أن يجتازوا حاجزًا عسكريًّا من 3 مراحل في أقل من 10 أمتار: بوابة دوارة عمودية، وبوابة إلكترونية، وبوابة حديدية تجاورها نقطة عسكرية مأهولة.
وفي المرحلة الثانية، وعلى بعد حوالي عشرة أمتار أخرى، مجموعة بوابات إلكترونية متجاورة، وهنا على المصلين دفع بوابة حديدية أفقية، ثم البوابة الإلكترونية الكاشفة للمعادن، تليها مرحلة تدقيق الهويات من الجنود خلف الزجاج، ثم التسريح عبر بوابة معدنية أفقية إلى مدخل المسجد.
وقبل هذه الحواجز، كانت في طريق المسجد نقطتان لجيش الاحتلال، ينتشر بهما قرابة 12 جنديًّا، الأولى عند بداية الدرج الصاعد للمسجد والمحاذي لحائطه الغربي، والثانية عند الباب المباشر للمسجد في أعلى الدرج.
يشار إلى أن سلطات الاحتلال تعمد إلى منع رفع الآذان في المسجد الإبراهيمي بذريعة إزعاج المستوطنين وتُخضِع المصلين المسلمين لعمليات الابتزاز والتفتيش على البوابات الإلكترونية والحواجز العسكرية المؤدية للمسجد الإبراهيمي والبلدة القديمة من مدينة الخليل.
رصاصات الجريمة
ولا تزال جنبات المسجد الإبراهيمي في الخليل، تحوي آثار رصاصات المجزرة بالإضافة لذكريات أهالي الشهداء والجرحى مُبقية على الجرح دون التئام.
وطالت الرصاصات المنطقة الإسحاقية والمحراب، في صورة متعمدة لاستهداف الإمام وإيقاع أكبر قدر من المصلين، ورغم عمليات الترميم فإنها لا تزال باقية تشهد على الجريمة.
وتعرض وزارة الأوقاف آثار الجريمة للزوار، التي لا تزال شاهدة على الواقع الذي فرضه الاحتلال بعد المجزرة.
ويقع المسجد الإبراهيمي في البلدة القديمة من الخليل، في المنطقة التي يسيطر عليها جيش الاحتلال ويسكنها نحو 400 مستوطن يحرسهم نحو 1500 جندي من جيش الاحتلال.