تثير "مذكرة التفاهم" التي وقعتها السلطة فجأةً الأحد الماضي برام الله بين صندوق الاستثمار وشركة اتحاد المقاولين CCC مع الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس" لتطوير حقل غاز غزة، علامات استفهام كبيرة حول "الصندوق الأسود" في ملف حقل الغاز الذي عاد ليطفو على السطح مجددًا.
قادة فصائل فلسطينية عدُّوا، أن تغييب المعلومات المتعلقة باتفاقيات الغاز يُعدُّ تطاولًا على حقوق المواطنين، وأن إغفال ملف حقل الغاز أتاح للاحتلال الاستيلاء على حقل الغاز وتحويله لسوق عالمي، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول الملف برمته من جراء هذا التكتيم.
وفي وقت يسرق فيه الاحتلال غاز الحقل باستمرار تغيب السلطة الفلسطينية عن المشهد على الأرض منذ سنوات طويلة، باستثناء توقيع مذكرات واتفاقيات متكررة بلا فائدة حقيقية.
سبق هذا الأمر ما عده خبراء لصحيفة "فلسطين" "خطأً كبيرًا" ارتكبته حكومة رامي الحمد الله في مارس/ آذار 2018م بالتصديق على إخراج شركة "شل" العالمية للنفط والغاز من ائتلاف الشركات المطورة لحقل "غزة مارين".
الحقل الفلسطيني الذي يقع على بعد (36) كيلومترًا غرب قطاع غزة في مياه البحر الأبيض المتوسط، واكتشِف نهاية تسعينيات القرن الماضي، تتجاوز كمية الغاز الطبيعي فيه (33) مليار متر مكعب، وتصل حصة شركة "شل" في حقل غزة إلى 55%، لتقدم السلطة الحقل على "طبق من ذهب" للاحتلال بإخراج شركة "شل"، علمًا أن "شل" حصلت على حق الامتياز في حقل غزة مارين من "بريتش غاز" البريطانية، التي استحوذت عليه على مدار (18) عامًا.
الأكثر ترجيحًا، حسب تقديرات المراقبين، أن خروج شل من الحقل هو لعدم قدرة الشركة على ممارسة عمليات التنقيب والحفر والاستخراج فعليًّا، بعدِّها شركة تهدف للربح والاستثمار، لأن الاحتلال منع الشركة من الاستثمار بالعوائق التي كان يفرضها، ويواصل مصادرة وسرقة الغاز من حقل غاز عبر أنابيب وطرق مختلفة مثلما يفعل بالضفة الغربية المحتلة.
عودة لنقطة الصفر
يعتقد أستاذ الجغرافيا في جامعة بيرزيت د. عبد الله حرز الله أن "مذكرة التفاهم" التي وقعتها السلطة غير عملية، وليست مأخوذة بجدية عالية، وإنما هي "حركة سياسية لها أهداف ترتبط بموضوع الانتخابات لا أكثر ولا أقل، لكون هذا الموضوع لا يمكن أن يمر دون الموافقة الإسرائيلية، وهذه النقطة الغائبة عن الأمر، فلا يمكن إجراء أي تطوير بالمنطقة دون موافقة الاحتلال".
وتساءل حرز الله لصحيفة "فلسطين" -مع افتراض الحصول على موافقة إسرائيلية-: ما ثمن هذه الموافقة؟ وهل لها علاقة بتمرير خطة أو تفاصيل معينة مرتبطة بصفقة القرن؟ وهل يمكن للمصريين القبول بإخراج الغاز دون استفادة (إسرائيل) منه؟ معربًا عن خشيته أن تلحق "مذكرة التفاهم" اتفاقية تكون مرتبطة بمؤامرة سياسية على القضية الفلسطينية.
ما زالت المعلومات عن الكمية التي سرقها الاحتلال الإسرائيلي، وفق حرز الله، من حقل الغاز قبالة غزة مغيبة، إذ يوجد حقلان كبيران؛ الأول بسعة (30) مليار متر مكعب من الغاز، ويبعد عن القطاع قرابة (35) كيلومترًا داخل البحر، والثاني الذي يسرقه حاليًّا بحجم (3-5) مليارات متر مكعب، وليس واضحًا إذا ما زالت فيه كميات من الغاز أو لا.
لذا فإن مذكرة التفاهم التي وقعتها السلطة مع مصر عودة لنقطة الصفر من جديد، بعدما باعت شركة "بريتش غاز" حصتها لجهة أخرى غير معروفة حتى اللحظة، فضلًا عن التصديق على إزاحة شركة "شل" العالمية عن التنقيب عن الغاز، ما يدل على التخبط الفلسطيني سياسيًّا واقتصاديًّا، والكلام لأستاذ الجغرافيا.
ورأى أنه بإخراج "شل" دون وجود بديل عنها، يكون الاحتلال قد نقل الصراع على البترول لمرحلة لا يمكن للفلسطينيين حمايته، معتقدًا أن السلطة سقطت في الكمين الذي نصبه الاحتلال.
ويعتقد أن دور السلطة في مواجهة الاحتلال محدود، ولا تستطيع استغلال الموارد الفلسطينية، وتدور حول نفسها، على الرغم من أن "المطلوب المناورة، وعمل تحالفات سياسية مع قوى لها تأثير في المنطقة للضغط على الاحتلال لاستغلال الموارد".
إخراج شركات عالمية ودول صديقة أخرى من التنقيب عن الغاز، يعده حرز الله خطأً كبيرًا ارتكبته السلطة فيما يتعلق بشركة "شل" و"بريتش غاز"، وهو ما دفع الاحتلال لسرقة حقل الغاز، مستدركًا: "حينما تكون لديك قائمة أصدقاء وجهات دولية تشارك معك في المشروع فإن ذلك يدفع باتجاه حصولك على مواردك والاستفادة منها في التنمية، لكن السلطة ذهبت عكس ذلك، وأزاحت تلك الشركات، ولم تجنِ ثمارَ أي شيء".
دور ضعيف
ويصف المتحدث باسم حراك ضد الفساد عامر حمدان في حديثه لصحيفة "فلسطين" دور السلطة في التنقيب عن الغاز بـ"الضعيف والمحدود" والمغيب منذ سنوات، على الرغم من أنه يفترض أن يكون موضوع حقل الغاز على سلم الاهتمام، وأن يقاتل الجميع للحصول على حصتنا فيه.
وهذا ما يتفق معه الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل الذي يقول: إن "موضوع الغاز صندوق أسود، فالناس في غزة ترى محطة الغاز مضيئة حينما تنظر للبحر، ولا تفهم ما هي الاتفاقات المبرمة، ولمن يذهب الغاز".
وأخيرًا ظهرت قضية الغاز والصراع الإقليمي على الغاز كما يذكر عوكل لصحيفة "فلسطين"، متسائلًا: لماذا وقَّعت السلطة اتفاقية مع مصر؟ عادًّا تغييب المعلومات عن الناس من القضايا السياسية الفلسطينية الكبرى، في ظل غياب قانون للكشف عن المعلومات، وتمكين الأطراف المعنية من الوقوف عندها، وعليه تستمر بسرية كاملة.
معلومات مغيبة
من جانبه، أكد القيادي في الجبهة الشعبية بدران جابر أن حق المعرفة مضمون في قوانين حقوق الإنسان، وأن حق المواطنة يستوجب على المسؤول الفلسطيني عدم إخفاء المعلومات عن مقدرات يعدُّها المواطنون رصيدًا لهم.
وأشار جابر في حديثه لصحيفة "فلسطين" إلى أن المعلومات المتعلقة بحقل "غاز غزة" غيبت لمدة (25) سنة، وكان بالإمكان استغلال المورد لتسهيل عيش المواطنين الفلسطينيين إن لم يكن إحداث نقلة نوعية باستغلال الموارد للتجارة عالميًّا.
وقال: "هناك مبررات لدى السلطة لهذا التأخير، ونحن لم ولن نتفهمها"، عادًّا ذلك تغييبًا وتطاولًا على حقوق المواطنين، من ثم كان الأولى "أن تسخر الجهود للتعريف وتوظيف المعلومة في خدمة الوطن".
علامات استفهام
في حين يضع القيادي في حركة حماس نادر صوافطة، علامات استفهام كبيرة على عدم اطلاع المواطنين وقادة الفصائل على تفاصيل الاتفاقات، خاصة أن التجارب السابقة لم تأتِ بخير.
وقال صوافطة لصحيفة "فلسطين": إن "الأصل في الاتفاقية التي تمس مقدرات المواطنين والشعب الفلسطيني أن تحاط بنوع من الشفافية وعدم إخفائها، ويجب أن ندرك أننا تحت احتلال وهذا يتطلب أن يكون هناك قرار جماعي في أي قضية تتعلق بالمقدرات الفلسطينية، ولا يجوز أن يستفرد بها أي جهة من أي موقع".
وأشار صوافطة إلى أن عدة اتفاقات وُقِّعت في أثناء المفاوضات بين السلطة والاحتلال ولم تكُن في صالح الشعب الفلسطيني، كاتفاقية باريس الاقتصادية التي كبلت الاقتصاد الفلسطيني برمته.
وشدد على ضرورة إشراك قيادات العمل الوطني والإسلامي في هذه القضايا، لا سيَّما في ظل الإقبال على الانتخابات.