ما زالت تتمازج وتتدافع الأجيال داخل حركة حماس منذ انطلاقتها، لتشكل نموذجًا فريدًا بين الفصائل والقوى الفلسطينية في تجديد قيادتها وتطوير مؤسساتها وأنظمتها، وما زالت تختار قيادتها وفقًا لأنظمتها الديمقراطية في كل دورة تنظيمية، دون أن يكون لأي من كوادرها أو قياداتها تولي أي منصب من المناصب القيادية أو الشورية فيها دون رغبة من عناصرها، فقيادة حماس تفرز من طريق قواعدها التنظيمية في عملية انتخابات داخلية رائعة، حق لحماس أن تفخر بها.
أول أمس الجمعة توجه عشرات الآلاف من عناصر حماس إلى مراكز الاقتراع، لتبدأ المرحلة الأولى من اختيار قيادة للحركة مدة أربع سنوات قادمة، وقد اعترت عملية الانتخابات أجواء رائعة من التنظيم الدقيق الذي مكن كل عنصر من الإدلاء بصوته في جو من الحرية الكاملة، دون وجود أي منغصات قد تحول دون إتمام العملية الانتخابية حتى نهاية مراحلها بهدوء وسلام، فمع العدد الكبير الذي قد يصل إلى عشرات الآلاف في مرحلة الانتخابات الأولى، لم تسجل أي ملاحظات تشير إلى وقوع ما قد يشوه جمال هذه العملية الديمقراطية الداخلية الرائعة.
مما يحسب لحركة حماس ويشير إلى قوة بنائها التنظيمي أنها تجري انتخاباتها الداخلية في عملية تكاد تكون متزامنة مع المرحلة الأولى من مراحل الانتخابات الفلسطينية العامة للمجلس التشريعي الفلسطيني، ففي الوقت الذي يتجند فيه عناصر وكوادر وقيادات الحركة كافة من أجل خوض هذه المعركة الصعبة في هذا الوقت الحساس والدقيق من تاريخ الشعب الفلسطيني، لم يمنع ذلك كله الحركة من إجراء انتخاباتها الداخلية، وهو أمر قلما تقدر على إنجازه أكبر الحركات والأحزاب حتى في أكثر الدول استقرارًا وممارسةً للعملية الديمقراطية.
تختار حماس قيادتها الجديدة لتتولى العمل في المرحلة القريبة المقبلة على ملفات كبيرة وشائكة وصعبة، تبدأ بالحفاظ على تطوير أطرها التنظيمية الداخلية فكريًّا وفي السياق ذاته استيعاب أجيال جديدة من أبناء الشعب الفلسطيني، بطرح فكرها المنبثق من الفهم الوسطي للإسلام ثم الإيمان العميق بالقضية الوطنية وحق الشعب الفلسطيني باستعادة أرضه ونيل استقلاله، ثم مرورًا بالحفاظ على قوتها المقاومة وتطويرها وتهيئة كل الظروف لتمكينها من تحقيق هدفها السامي بتحرير الوطن وتطهير مقدساته، وكذلك نسج علاقة متينة ومتوازنة مع الفصائل والقوى التنظيمية الفلسطينية كافة للحفاظ على حالة من الانسجام في العمل الوطني، رغم اختلاف التوجهات والرؤى الفكرية لهذه التنظيمات، ذلك بالتوازي مع العمل خارجيًّا على نسج علاقات مع الشعوب والدول الصديقة للشعب الفلسطيني لكسب الدعم والتأييد على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتشكيل جدار حماية للقضية الوطنية الفلسطينية يحميها من محاولات التصفية التي قد تطالها، فضلًا عن العديد من الملفات المهمة التي توليها الحركة اهتمامها وعنايتها.
كل ما سبق يشير إلى مدى التطور الذي تعيشه حركة حماس على الصعيدين الداخلي والخارجي، رغم قسوة الظروف التي تمر بها داخليًّا بسبب الاحتلال الذي يسخر كل طاقاته لمحاربتها عسكريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا، فضلًا عن حالة الاختلاف مع القطب الثاني للعمل الفلسطيني حركة فتح وما خلفه من انقسام، وكذلك على الصعيد الخارجي حيث الحصار الدولي والإقليمي ووضع الحركة على قائمة الإرهاب الأوربية والأمريكية، وما يصاحب كل ذلك من تضييق وملاحقة وانحسار في مجال العمل السياسي والدبلوماسي لديها.
ما تقوم به حركة حماس هو نوع من الإعجاز الذي لا يمكن أن يتولد إلا عن قيادة صلبة عنيدة، وفي الإطار ذاته هي قيادة حكيمة وواعية وراشدة، تستشرف طريق المستقبل، وتعي توازنات الحاضر، وتستند إلى إرث قيمي عظيم من تاريخها، الذي أنار صفحاته سِيَر من سبق من قادتها ورموزها وشهدائها، وهو أمر لم يكن ليحدث لولا هذا التناغم والانسجام والتماسك بين قيادة الحركة وقواعدها والتمسك بمبادئها وقيمها والتجرد من الأهواء والمصالح، وكل ذلك نتاج الحالة الديمقراطية والشورية التي تتمسك بها الحركة حتى أصبحت جزءًا من تكوينها التي يتربى عليه عناصرها وينتقل من جيل إلى جيل بين أبنائها.
في أيام قليلة ستتولى قيادة حماس الجديدة دفة سفينتها لتنشر أشرعتها وقلوعها وتبحر بها من جديد، ربما بين عواصف عاتية وأمواج متلاطمة وظروف قاسية، ولكنها ستكون دائمًا سفينة قادرة على تحدي العواصف والأمواج، لترسو حيث أراد لها ربانها وحيث يرنو أبناؤها، نحو الشاطئ الذي تأبى أن ترسو على سواه، وسترسو بإذن الله على شاطئ فلسطين.