استقرت قواعد التنسيق والحوار الفلسطيني الأخير في القاهرة، بين حركتي فتح وحماس وبقية الفصائل الفلسطينية، على بلورة أشكال وصلاحيات الهيئات القيادية المعنية بمرسوم "أبو مازن"، لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، وحددت الإشراف عليها بمحكمة انتخابات ستشكل لاحقاً وبإشراف "الشرطة الفلسطينية"، ودعوة مندوبين من مصر للرقابة عليها.
ظاهرياً تبدو قواعد الحوار وبيانها متماسكة، وأنه أهم ما أنجز خلال العقد والنصف الماضي في مسيرة العمل الفلسطيني المفتقد لخيمته؛ منظمة التحرير، المصابة بتمزق وترهل لم ينفع معه الرتق المستمر بدعوات العودة إليها والانضواء تحت مظلتها، أو إصلاحها ومراجعة جل السياسة الفلسطينية كضرورة لتعزيز الوحدة الفلسطينية.
الآن، وفي ضوء نتائج الحوار الأخير، الأنظار تتجه لشكل التحالفات القادمة، وقوائم المرشحين في ظل حالة تبدو أكثر سوءاً من ذي قبل، خصوصاً ما صدر من حالة تنمر وهجوم على أي تحالفات مستقلة ستتشكل في حركة فتح، مع الطلب الرسمي الذي توجهت به حركة "فتح" للأسير مروان البرغوثي بعدم الترشح للرئاسة، كبادرة على التفرد المستمر بسياسات عبثية لا طائل منها.. وفي ظل رغبة عميقة للحفاظ على مكتسبات السلطة ومؤسساتها لصالح التخلي عن الإصلاح المطلوب الذي ينادي به الشارع الفلسطيني، واستخدام الأخير كورقة انتخابية مطلوبة في الصندوق المرتقب لا أكثر ولا أقل، بينما قضية الأسرى واللاجئين والاستيطان تحولت لشعارات شبيهة بشعارات النظام العربي المستخدمة عن قضية فلسطين.
القدرة على صياغة القرارات والسياسات التي تخدم شعبا يرزح تحت الاحتلال، لا تبنى على فراغ، بينما يتعرض كل لحظة لمختلف أشكال العدوان والاستيطان على الأرض والمقدسات. ولا تتطور الوحدة الفلسطينية وترسي دعائمها بالمواعظ والشعارات والبكائيات المستمرة من ممارسات الاحتلال، ولا بأمنيات حسني النية، ممن يرغبون في رؤية شعبهم وقد تخلص من الانقسام ومن مغطس السلطة في أوسلو.
الحاجة الماسة للشارع الفلسطيني اليوم ليست محصورة برؤية نواب التشريعي يعقدون أولى جلساتهم البرلمانية، بقدر حاجتهم الملحة لاجتياز مرحلة ربع قرن من العبث السياسي والاقتصادي والأمني، تركت خراباً ومخاطر نجمت عن شتات الفعل والجهد، وفرضت على منظمة التحرير وحركة التحرر الوطني الفلسطيني خسارتها لأهم قوة ذاتية، ممثلة بالشارع الفلسطيني داخل فلسطين، وفلسطينيي الشتات واللاجئين وفي فلسطين الـ48، المستبعدين مع همومهم من عقلية السلطة والفصائل، إلا كحالة استعمالية متعلقة بالحديث عن "حق العودة"، وكبازار سياسي تُرك جزء منه لأنظمة عربية وفق منطق "لكم اللحم وإلنا العظم".
بعد تجربة طويلة مليئة بالمرارة والأسى، تحمل السلطة والفصائل التصورات ذاتها حول المسائل المطروحة على الساحة الفلسطينية المصابة بمرض النظام العربي، وفي بعض علله الحزبية والعشائرية والسلطوية الطاغية على فرد الرئيس والأمين العام وحتى "البرلماني". والذي يرى بعمق ما جرى ويجري على الساحة الفلسطينية، يعرف كم أصبحت هذه الحالة راسخة، بدليل أن الرئيس الذي دخل عقده التاسع مرشح لحركة تحرر وطني مصابة بعقم توبيخ الأسير من منافسة الرئيس، وعضو التشريعي المُجرب بفساد وترهل واستمراء التنسيق الأمني ينهر الشارع أن يهب لانتخابه، وقد نجمَ عن تثبيت هذه القاعدة توطيد مفاعيل الشلل الذاتي.
نجحت السلطة الفلسطينية والفصائل في استدراج الشارع الفلسطيني نحو مزيد من الخيبات في زرع فخاخ عدة في طريقه، ومن أنجح البرامج في هذا "النجاح" تجنيب شعبها وإبعاده عن الاشتباك مع المحتل وتفريغ جُعبهِ، حتى أصبح "ملطشة" للمحتل وعصابات المستوطنين، ووقودا في مسالخ الممانعة.
وهل يمكن التفكير ملياً في قدرة حركة تحرر وطني على غض النظر عن حالة إذلال شعبها المحاصر في غزة، والمقتول في مخيمات سوريا، واستبداله بتملق مستمر لأنظمة متآمرة تصادر حقه في الألم وتخلع عباءتها السياسية والأخلاقية عنه، وتختمها بمطالبته أن يكون ورقة في الصندوق الانتخابي، ومشاهدة كفيهِ تصفقان لهذا الإنجاز.
من هنا نصل إلى القول بأن الميزة التي توفر التأييد لقضية فلسطين من شارع فلسطيني وعربي، وتكمن في استعادة دور منظمة التحرير كممثل شرعي لكل الشعب الفلسطيني، والاستعادة بحاجة لإصلاح وتفعيل مؤسسات، والنواة الباقية على صلابة مرجوة وقاعدة استقطاب أوسع للنضال هي الشارع الفلسطيني والعربي. أما ما دامت السلطة ترفع راية أوسلو المختبئ خلفها "النضال" الفصائلي المرتهن بعضه لفروع الشاباك وفلسطين والمخابرات المصرية، المُعبر عنها في رسائل الغزل لمن ساهم في مقتلة الفلسطينيين والسوريين، فإن الإخفاق لن تبدله الانتخابات بنجاح، إن لم يلتئم شمل النضال الفلسطيني على مقاومة المحتل ودحره.
حصاد الإخفاق القادم ما يُزرع في مواسم العدوان على الأرض والإنسان الفلسطيني داخل وطنه وخارجه.