العملية الديمقراطية تعني ببساطة سلطة الشعب وحريته في اختيار ممثليه في البرلمان، وكذلك حريته في اختيار الحاكم، أيًّا كان مسمى هذا الحاكم رئيسًا أو رئيس وزراء أو أي مسمى آخر يُعَبر به عن أعلى منصب تنفيذي في الدولة، وهذا الشكل من الحكم الديمقراطي تجد له أشكالًا مختلفة في أنظمة الحكم، تتباين ما بين البرلماني والرئاسي أو ما يعرف وفقًا للعلم الدستوري بحكومة الجمعية، ولكن كل تلك الأشكال من أنظمة الحكم لا تؤثر في جوهر العملية الديمقراطية التي أساسها حرية المواطن في الاختيار، وفقًا لما يمليه عليه ضميره دون أي نوع من الإكراه الذي قد يصاحب إرادته فيؤثر في حريتها.
الحالة الفلسطينية لم تصل بعد إلى مرحلة الاستقرار في شكل نظام الحكم أو في ترسيخ قواعد الحكم الديمقراطي، مع أن المرتين اللتين أجريت فيهما الانتخابات كانتا بمنزلة لوحة جمالية أخرى يفتخر بها الشعب الفلسطيني، بجانب لوحاته الجمالية الكثيرة التي سطرها عبر تاريخه المشرق من الكفاح والمقاومة إلى جانب النبوغ العلمي والتقدم الحضاري، رغم كل المآسي التي عانى وما زال يعانيها.
وإن الديمقراطية الفلسطينية في الحكم ديمقراطية حديثة، لم يمر عليها سوى أقل من ثلاثين عامًا، لذا إن إجراء عمليتي انتخاب في هذه المدة القصيرة يعد إنجازًا للشعب الفلسطيني، إذا ما قيس عمر الحكم الفلسطيني القصير بأعمار دول مر عليها عشرات أو مئات السنين، ولم تجرَ فيها أي نوع من أنواع الانتخابات، حتى لو كانت مجرد انتخابات بلدية.
لا أزعم أن التجربة الديمقراطية تجربة مميزة، ولكن أظنها تجربة واعدة، يمكن أن تشكل نموذجًا في العالم العربي، إذا ما أحسنا السير بين حقول الأشواك التي تعترض طريق الديمقراطية الفلسطينية، ولذلك قد يكون من المفيد في بعض الأوقات في سبيل الحفاظ على المسار الديمقراطي أن نلجأ إلى شكل من أشكال الديمقراطية أسميه -إن جاز لي- (الديمقراطية التوافقية)، نمر عبره بنفق مرحلة نُفضي منها إلى آفاق أرحب وأوسع من الحياة الديمقراطية التي نطمح إليها الفلسطينيين.
ربما هو غريب مصطلح الديمقراطية التوافقية، لأن الديمقراطية تعني حرية الاختيار للشعب كما أسلفنا، ولكن الإبداع الفلسطيني يجب ألا يتوقف عند نصوص جامدة.
وصحيح أن أشكال الديمقراطية المعروفة قد كتب فيها كُتاب الفقه الدستوري ويعرفها كل دارسي العلوم الدستورية، لكن ربما تقتضي الحالة الفلسطينية كما تعودنا دائمًا أن نجترح من الأساليب والوسائل ما نستطيع به أن نواجه بعض المراحل التي يمر بها شعبنا، وكما أفلح شعبنا دائمًا في اجتراح وسائل الكفاح والنضال لن يعجز عن اجتراح وسائل العمل الديمقراطي التي يتجاوز بها الصعاب التي تحيط به من كل الجوانب، وفي مقدمتها الصعوبات والعقبات التي يصنعها الاحتلال الذي لا يزال يمارس دوره في إحباط كل أمل فلسطيني، لكن يتغلب عليه الفلسطيني دائمًا بإبداع وسائل الاشتباك مع العدو في كل الميادين.
الشعب الفلسطيني شعب متجانس من حيث الثقافة والعرق والأعراف والتقاليد والدين، ولا يوجد لدينا طوائف متناحرة ولا أعراق وإثنيات متعددة، ولكن ما يميز الشعب الفلسطيني حرية اعتناق الأفكار وتباين الرؤى السياسية، وهي ظاهرة صحية ويجب المحافظة عليها وترشيدها، لتشكل واحة من الاختلاف الجميل بين مكونات الشعب الفلسطيني، وقد يكون ما أتحدث به ضربًا من الخيال، ولكن الواقع الفلسطيني المؤلم يفرض علينا أن نتعامل وفقًا لهذا المنطق الذي يساعدنا على اجتياز مرحلة من أدق وأخطر المراحل التي مرت بها قضيتنا.
إذًا -حسب رأيي- فالديمقراطية التوافقية الفلسطينية هي المخرج الآن من حالة الأزمة التي سببها الانقسام، وأدت إلى ما أدت اليه من تراجع كارثي للقضية الفلسطينية على المستويين الإقليمي والدولي، ولما كانت حالة انعدام الثقة هي السائدة الآن، ولكلٍّ من الفصائل الفلسطينية مسوغاته وتوجهاته التي يعزو إليها شكه في نوايا الفريق الآخر؛ فلا مناص من الاتفاق على إجراء العملية الديمقراطية وفقًا لتوافق يبني جسور الثقة، ويسكن هواجس الخوف والارتياب لدى الأطراف كافة، ويؤسس لعلاقة واضحة بين مكونات العمل السياسي الفلسطيني، تستطيع من طريقه ممارسة التناوب السلمي على السلطة ممارسة تضمن استمرار الحالة الديمقراطية، وصولًا إلى تعزيزها واستقرارها، ولا حرج –من وجهة نظري- في ذلك ما دامت العدالة نفسها قد تكون (عدالة انتقالية) في مرحلة من المراحل القاسية التي تعيشها بعض الشعوب، بل إن العدالة الانتقالية أصبحت علمًا يدرس في كليات الحقوق مرحلةَ انتقال من حالة حكم دكتاتوري أو فوضى سياسية إلى حالة ديمقراطية سلمية، وفي ظني أن الديمقراطية كذلك قد تكون (ديمقراطية انتقالية) أيضًا، للانعتاق من حالة اقتتال واختلاف سياسي أدى إلى انقسام وطني، وما صاحبه من انقسام على مستوى المؤسسات الرسمية والعامة، ثم شمل كل مناحي الحياة من الجوانب الاقتصادية والثقافية حتى الاجتماعية.
ولذلك أصبح من الضروري الخروج من هذه الحالة بـ(الديمقراطية التوافقية) التي تمنح الجميع فرصة للاستمرار في مسار العملية الديمقراطية والانتخابات دون خوف أو وجل، مع حالة الضغوط الإقليمية والدولية التي تسعى إلى إجهاض التجربة الديمقراطية الفلسطينية، كما أجهضت وتجهض في دول محيطة، فضلًا عن وجود الاحتلال، فما لا يدرك كله لا يترك جله.