تنزل أم محمد أبو "ح"، على درجات سلم إحدى المؤسسات الحكومية عائدة لمنزلها بعدما استفسرت عن المشاريع السكنية، كطائر مكسور الجناح، بعينين ذابلتين وملامح تطفو عليها بقايا الدموع التي تساقطت منها، ووصلت بعض بقاياها لعيني موظف الاستقبال الذي انتبه لتكرار مجيئها للمراجعة.
يلقي عليها خيطًا جديدًا من الأمل: "يا أختي، ملكيش إلا تروحي على الحاضنة الشعبية.. وإن شاء االله ما يرجعوك خائبة".. حملت نفسها واستجابت لطلبه وأودعت أوراقًا تفصيلية عن حالتهم في الحاضنة، وعادت غير آبهة بما أودعت، فهي منذ اثني عشر عامًا تودع ملفات بمختلف الجمعيات والمؤسسات لترميم منزلها دون مجيب.
شهور عديدة مرت، وحال أم محمد وأبناؤها الخمسة "يبكي الحجر" يعيشون في غرفة تجمع بين جدرانها الأربعة، الثلاجة والغسالة وملاءات قديمة تتراص بعضها فوق بعض، وخزانة وحيدة، قبل أن يأتي وفدٌ من الحاضنة لمعاينة المكان، ثم غادر.
"يما تحطيش أمل كبير دايما بتيجي لجان وما بترجع تاني!" يحدث الابن أمه التي فضلت السكوت وانتظار ما تحمله الأيام، وحملت لها مفاجأة دوى صداها بداخلها بعد عدة أيام، صوت المتصل كان صريحًا وواضحًا بلا مقدمات كثيرة: "راح نيجي نقيم الدار، ونبنيلك بيت" كلمات لم يتسع قلب أم محمد لها، تمر بشريط ذكرياتها على كل السنوات التي ذاقت فيها المر، لحظة تأمل سرق الدمع من عينيها ماءه وانساب بخفة ممزوج بفرحة كبيرة.
لمسات الفرح الأخيرة
في مخيم البريج، لحظة وصولنا المنزل، تقف رنا ذات الأعوام الأحد عشر بجوار والديها وأخوتها تغمرهم السعادة فلا ترى سوى ابتسامة مشرقة يستقبلونك بها، يتأملون اللمسات الأخيرة التي يضعها العمال على بيتهم الذي بني بالكامل، بداخل المنزل يقابلك صالة استقبال ضيوف يطل عليها مطبخ من الرخام، وتحيط به ثلاث غرف، تكتسي جدران إحداها باللون البنفسجي اختارته رنا وشقيقاتها الثلاث.
تصطحبنا "أم محمد" للغرفة التي كانت شاهدة على معاناة العائلة يتحرك شريط المعاناة في صوتها لصحيفة "فلسطين": "عشنا بمأساة. نعيش عند شقيق زوجي، ابني عمره 22 سنة ينام في بيت عمه، وأنا وزوجي في الخارج نترك الغرفة لبناتي اللواتي كبرن وأصبحن في المرحلة الثانوية. الغرفة كانت تضم الثلاجة والملابس وخزانة واحدة، كنت أختنق واحترق من الداخل حينما يريد أي شخص من عائلتي زيارتي لعدم وجود مكان".
استدارت أم محمد بعينين ممتلئتين بدموع تخنق صوتها الممزوج بالفرح يصحبه تنهيدة حارة: "الآن؛ كل شيء تغير، سيكون لي بيت أؤمن فيه على بناتي، أخرج وأعود وأنا مطمئنة عليهن".
يقتحم صوت بريء قادم من رنا التي تحمل شهادة تفوقها المدرسي أجواء الحديث: "كنت أحلم أن يكون لدينا بيت ونعيش فيه حياة حلوة، نزينه بلوحات رسم، ودباديب وأشياء حلوة وسرير وتحقق ذلك".
بيت الأحلام
جدران أكلها الزمن.. أرضيات متشققة.. جدران متصدعة، بيت قديم متهالك البنيان، تتسلل مياه الأمطار عبر كل ثقب وفتحة في سقفه، لتحيل البيت في الشتاء إلى بركة مياه، يتلقف الهواء البارد كرم "ح" وإخوته من كل جانب وينخر أجسادهم، يقفون على أطلال الأمل منتظرين حلمًا تأخر كثيرًا حتى باتوا في عداد "المنسيين" في قطاع غزة، قبل أن تودع والدتهم طلبا لدى "الحاضنة الشعبية" ليأتي الرد بإنشاء البيت من الصفر بعد شهرين فقط من تقديمه.
لم يعد ذلك المشهد موجودًا، فما أن تصل البيت في مخيم النصيرات تنظر للمنزل الذي شارفت أعمال البناء فيه على الانتهاء، مسقوفًا بالباطون ويستطيع حمل أربعة طوابق، يشابه البيوت العصرية في شكليه الخارجي والداخلي، يمتد على مساحة 160 مترًا محاط بارتدادات واسعة عن الجيران، بجانبه حديقة منزلية صغيرة (مظلة) ستزهر بها ورود وأشجار كما أزهر حلم العائلة.
يقف كرم (20 عامًا) يتابع عملية تقسيم غرف البيت من الداخل، تملأ ملامحه فرحة عبر عنها بنبرة صوت عامية: "فرحان كتير، وحابب أكون مُطّلع على البناء بشكل كامل، لأني بستنى هالفرصة من زمان وحبيت ما أضيع ولا يوم وأنا بشوف بناء حياتنا بنبنى من أول وجديد".
المشهد مفرح لأبناء أيتام (ثلاثة ذكور وبنتان) فقدوا والدهم قبل ثلاث سنوات، "بالذات كنا فاقدين الأمل ولقينا حدا يتبناه".. يكتف كرم يديه وهو ينظر لأعمال البناء، يستذكر مشهد منزلهم القديم: "كان غير صالح للسكن، حتى أنهم حاولوا ترميمه إلا أن جدرانه سقطت وقرروا انشائها من الصفر".
حضرنا شقيقه الأكبر فادي 24 عامًا: "الآن –بعد بناء البيت– تستطيع الزواج ويكون لك مستقبلا".
شقيقهم خالد (23 عاما) –الذي يعمل في قطاع الإنشاءات- أبى إلا أن يشارك العمال أعمال البناء، لا يكترث لقطرات العرق التي تبلل ناصيته، يدخل صحيفة "فلسطين" في أجواء فرحته: "منذ زمن أعمل في الطوبار مع أبي، الذي توفي قبل ثلاثة أعوام وكان يمني النفس أن يبني لنا بيتا، تغمرني السعادة في العمل بمنزلنا".
"كنا وين وصرنا وين، تغيرت حياتنا" كلمات امتزجت بضحكة عابرة، توقف فيها عن العمل يتأمل شكل الحياة السابقة: "كانت صعبة، تدخل علينا المياه في الشتاء، وتفصل الكهرباء طوال الوقت بسبب التماس، لا يوجد أبواب، النوافذ من الخشب القديم، وصلنا الآن لمرحلة لم نكن نحلم بها لدينا بيت جميل جدا، أمامه مظلة تستطيع زراعتها، ولديه سطح لأول مرة سنجلس عليه تحت أشعة الشمس وقد نربى طيورًا ونبني في المستقبل شققا سكنية لي ولأخوتي ونتزوج".
"الواحد ما صدق يكون عنده بيت، كنا في أمل وتحقق" قالها خالد وهو يجلس فوق سطح المنزل تحت أشعة الشمس.
كلف بناء هذا المنزل وحده "الحاضنة الشعبية" في حركة حماس، التي تشرف على بنائه 25 ألف دولار.
فرحة تطفئ حريق الفقد
تتفقد أحلام أبو "ر" شقتها السكنية التي شارفت أعمال التشطيب على الانتهاء منها بإحدى العمارات السكنية، تطلق زفرات راحة تحمد الله أنها ستعيش الآن في بيت يأويها وأطفالها الخمسة.
مرت أحلام بفترة قاسية بعد وفاة زوجها بحريق النصيرات العام الماضي، فقد ظل حريق الفقد مشتعلاً بداخلها، زاد اشتعاله خلافات عائلية حدثت مع عائلة زوجها الذين طلبوا أخذوا المنزل منها، وتُركت هي وأبناؤها في الطريق.
"هي المؤسسة الوحيدة التي نظرت لموضوعي بعين الاهتمام، لما اتصلوا وقالوا إنهم حيرمموا البيت، ما كنتش مصدقة، حتى أولادي من كتر ما هم فرحانين صاروا ينطوا من الفرحة".. كلمات تخرج من صوتها المقهور بمرارة الفقد: "سعيدة جدا بتملكي شقة، خاصة أن أبنائي تمنوا هذه اللحظة بأن يكون لهم بيتا وشقة سكنية وأسرّة وألعاب".
الحزن يتزاحم في صوتها بعفوية تستمع صحيفة "فلسطين" لصوت القهر بداخلها: "صحيح الآن انت في نعمة، ولكن كزوجة فقدت زوجها أشعر أني بعالم آخر يختلف عن المحيط، أعيش وحدي، وما يجعل لدي أمل هم أبنائي الخمسة بأن أوصلهم لبر الأمان".
بقيمة إجمالية بلغت 4 ملايين و200 ألف دولار، تنفذ "الحاضنة الشعبية" في حركة حماس مشروعًا يحمل اسم "وفاء الأوفياء 1، 2" نفذ خلال عامي 2019 و 2020 ولا زال مستمرًا، واستهدف بناء وترميم 550 منزلاً، بحسب رئيس قسم المشاريع بالحاضنة المهندس شادي أبو زنادة.
والهدف من المشروع حسبما يذكر أبو زنادة لصحيفة "فلسطين" توفير مسكن آمن وصحي للعائلات الفقيرة خصصت من موازنات حركة حماس وبعضها بالشراكة مع وزارة الأشغال والإسكان، وجرى خلاله ترميم بيوت بشكل جزئي، أو البناء بالكامل، وهناك حالات تم شراء شقق سكنية لهم.
الفئات المستهدفة من المشروع، تبعا لكلامه، ثلاث فئات الأول المنازل التي لا تصلح للعيش الآدمي، أو البيوت الآيلة للسقوط، أو من لا يملك دفع ثمن إيجار وليس لديه مسكن.