فور صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن الشروع في تحقيقات في جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بالأراضي الفلسطينية المحتلة، بدأت الأوساط العسكرية والأمنية الإسرائيلية تتكيف مع هذا التطور الجديد، خشية توجيه اتهامات للجيش بارتكاب جرائم ضد إنسانية في الحرب القادمة.
بالتزامن مع هذا القرار الدولي تعمد الجنرالات الإسرائيليون -لا سيما قائد جيش الاحتلال أفيف كوخافي- إرسال رسائل للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، وكأنهم أصدروا البطاقة الحمراء حتى قبل الشروع في المواجهة العسكرية القادمة، ما يعني أنها حملت تهديدات للمدنيين في كلا المنطقتين، وأثارت ضجيجًا واضطرابًا إعلاميين.
بعد الضجة التي أثارها سارع كوخافي إلى الزعم بأن الجيش لن ينتهك قواعد القانون الدولي في المعارك، وسيمنح المدنيين إنذارًا مبكرًا ومدة راحة للمغادرة قبل تفعيل الضربات النارية القاتلة التي أعدها، خشية تقديم قادته للمحاكمة الدولية، لكن من المعقول أن نقدر أن ما أدلى به كوخافي جزء من التحضير للحملة العسكرية المقبلة.
تحاول (إسرائيل) تسويغ جرائمها ضد المدنيين في فلسطين ولبنان بترديد مقولة إنها تعيش تهديدًا فريدًا من نوعه من المنظمات المعادية، وجبهتها الداخلية تواجه عشرات آلاف الصواريخ الثقيلة: سبعة آلاف من لبنان، وعشرين ألفًا من غزة، علاوة على ذلك، هذا التهديد، الذي قد يتسبب بخسائر كثيرة ودمار رهيب، يمكن أن يتجسد في أي لحظة نتيجة للتصعيد أو التدهور الذي لا يريده أحد.
هذا التهديد الذي يواجه (إسرائيل) اليوم يعيد لأذهانها القتال بمخيم جنين في الانتفاضة الثانية، في أثناء تنفيذ عملية "السور الواقي" بالضفة الغربية، واعتراض المدنيين لها، لكن (إسرائيل) وجدت نفسها تواجه القضاء الدولي برئاسة ريتشارد غولدستون بعد حرب غزة 2008-2009م، وعقب قصف قرية قانا في حرب لبنان الثانية 2006م، ما تسبب في أضرار سياسية وضعت صعوبات أمامها في أوساط الرأي العام الدولي.
انتقادات عديدة وجهت لجيش الاحتلال الإسرائيلي بسبب استخدامه الجرافات في القتال، وتوقفت شركة (كاتربيلر) الأمريكية عن بيعه جرافات D-9، ورفضت شركة تصنيع سيارات بريطانية بيع سيارات الدفع الرباعي للجيش، في حين طالب رؤساء أمريكيون ودودون لـ(إسرائيل) مثل رونالد ريغان وجورج بوش الأب الجيش الإسرائيلي بوقف إطلاق النار في خضم القتال، بسبب موجة معادية في وسائل الإعلام الدولية في تلك الأيام.
علمًا أن الحاجة لتوافر شرعية داخلية ودولية للنشاط العسكري ليست مقصورة على دولة الاحتلال الإسرائيلي، بل أصبحت "معركة الشرعية" مكونًا مهمًّا في كل قتال، وتكرس الجيوش وسائل وجهود الدبلوماسية العامة لتحقيق الشرعية، والحفاظ عليها، لكن كوخافي يحاول تغيير هذا الوضع جذريًّا، على الأقل فيما يتعلق بالشرعية الفريدة التي يحتاج لها الجيش للعمل ضد الصواريخ في المناطق الحضرية في لبنان وقطاع غزة.