أصبحت نكتة رائجة في لبنان أن يقال "في هذه الأحوال الصعبة لم يعد هناك تاجر نزيه لم يستغل الأزمة ويرفع أسعاره إلا تاجر المخدرات".
لم تأت هذه النكتة من فراغ، ففي البلاد التي تعيش الانهيار الاقتصادي الأكبر في تاريخها، وتعاني من أسوأ أزمة مالية ارتفعت بسببها أسعار كل السلع في الأسواق، مواكبة لارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة، بقيت معظم أصناف المخدرات المتوفرة في لبنان على سعرها، وبعضها انخفض بشكل لافت يدفع للتساؤل عن أسباب هذا الأمر ونتائجه.
في مقارنة لما كانت عليه أسعار المواد المخدرة نهاية العام 2019 ومطلع العام 2020، أي قبل استفحال الأزمة الاقتصادية، وبين أسعار اليوم، يظهر أنه لم يطرأ تغيير كبير عليها كما هي حال كل ما له سوق في لبنان، رغم أن الدولار الذي كان يساوي 1500 ليرة لبنانية بات اليوم يتجاوز الـ 8700 ليرة.
الحشيشة والـ "ماريجوانا" أرخص
زينة اسم مستعار لمروجة مخدرات تنشط في ضواحي بيروت، تتحدث لموقع "الحرة" عن واقع أسعار المواد التي تبيعها اليوم، مقارنة بما كانت عليه قبل الأزمة المالية. حينها كان الغرام الواحد من الحشيشة يباع بمعدل وسطي 1500 ليرة لبنانية (نحو 1$).
وفي وقت تضاعفت فيه كافة أسعار السلع نحو 5 مرات، ارتفع سعر الحشيشة نحو 30% فقط بالليرة ليتراوح اليوم بين الـ 2000 و3000 ليرة، أما بحسابات الدولار فقد انخفضت إلى ما يساوي اليوم 30 سنتاً."
"الحشيشة إنتاج وتصنيع وطني، لا علاقة لها بحركة الدولار من الزراعة إلى الإنتاج، والارتفاع الذي طرأ على سعرها بالليرة هو مجرد انعكاس لارتفاع تكاليف التوزيع والترويج إضافة إلى نسبة أرباح المروج والتاجر التي تلحق بالسوق عموماً، أما استلامها فلا يزال تقريباً بالسعر نفسه." يقول "حسن" وهو مزارع حشيشة وتاجر في الوقت نفسه، مشيراً إلى أن الموسم الماضي شهد كساداً بسبب صعوبة تهريب الإنتاج إلى الخارج، وهو ما يتكل عليه تجار الحشيشة خصوصاً أكثر من السوق الداخلي التي لا تستهلك أكثر من 25% من عموم الإنتاج السنوي وتباع للخارج بنحو 10 أضعاف سعرها، المتضرر الحقيقي هنا هو المزارع الذي يبيع بالليرة على أسعار فقدت 80% من قيمتها."
ويعد لبنان ثالث أكبر مصدر للحشيش في العالم بعد المغرب وأفغانستان وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، وبالتالي فإن عرقلة التصدير بفعل الأزمة الاقتصادية وانفجار مرفأ بيروت الذي يشهد نسبة كبيرة من عمليات التهريب إلى الخارج، إضافة إلى إقفال الدول لأسواقها والتدقيق في عملية التصدير والاستيراد بسبب جائحة كورونا، أدى إلى محافظة الحشيشة على سعرها المنخفض في الداخل حيث جرى تصريف نسبة كبيرة من الموسم الماضي.
أما بالنسبة إلى الماريجوانا، فكان يتراوح سعر "الأونصة" منها، أي نحو 28 غ، بين الـ600 و 800 ألف ليرة (400 – 550$)، انخفض اليوم ليتراوح بين الـ 400 و 600 ألف ليرة (50 – 70$)، هذا الانخفاض تفسره زينة بقصة هذه النبتة في السوق اللبنانية، حيث لم تكن قبل سنوات قليلة تحظى بشهرتها اليوم، كان يطلبها زبائن محددون، ويلبى سوقهم عبر التهريب من الخارج أو زراعات منزلية محدودة لما يعرف بالـ" indoor weed"، لكن وفي السنوات الماضية ارتفع الطلب على هذه النبتة وبات استيراد بذورها المهجنة من الخارج أسهل وأقل تكلفة، فأصبح لها مزارع أكبر ما زاد الإنتاج بتكاليف أقل في البقاع والشمال والجبل، كما دخلت أصناف محلية رخيصة على السوق الجديد، ما أدى إلى انخفاض أسعارها أيضاً.
للـ"كوكايين" قصة أخرى
100 دولار كان معدل سعر الغرام الواحد من مادة الكوكايين قبل الانهيار الاقتصادي في لبنان، يرتفع أو ينخفض بحسب نوعيته ونقائه، أي ما يساوي حينها 150 ألف ليرة، بات سعر الغرام اليوم نحو 350 ألف ليرة، يقدم للزبائن على اعتبار أنه من الجودة نفسها. "ولكن قد تجد اليوم غراماً واحداً بسعر مليون ليرة، هذا شديد النقاء، وقد تجد بـ200 ألف ليرة فقط، لكن قصة الكوكايين في مكان آخر، فهو اليوم مصدر الدولارات بالنسبة إلى التجار والمروجين"، تقول زينة لتشرح أن "زبائن الكوكايين" عادة من ميسوري الحال بسبب ارتفاع سعره، و"ميسور الحال في لبنان اليوم هو من يملك ويتعامل بالدولار، وبالنسبة إلى هؤلاء فإما أنهم يتخطون بثرواتهم حسابات الأسعار، أو يملكون مصدراً للدولار، وفي الحالتين يكون سعر غرام الكوكايين قد انخفض بالنسبة لهم من 100 دولار إلى ما يقارب الـ 30 دولار ولغيرهم تضاعف مرة ونصف فقط".
ولكون إنتاج الكوكايين يتطلب استيراد مواد خام من الخارج، تشكك زينة بأن تكون النوعية المقدمة هي نفسها أو بالنقاء نفسه وتتحدث عن غش كبير واحترافي بات يطال مادة الكوكايين في لبنان وزبائن يشتكون باستمرار من هذا الأمر، "إلا إذا كان السبب أيضاً صعوبة التصدير، فلبنان سوق للكوكايين ومحطة إنتاج وتوزيع أيضاً على بلدان مجاورة."
تراجع في سوق الهيرويين
أما بالنسبة إلى الهيرويين، فلم تطرأ تغييرات كبيرة على سعره، إذ كان يتراوح سعر الغرام بين 25 و40 ألف ليرة لبنانية اليوم لا يزال بالمقدور الحصول عليه بحدود الـ 50 ألف ليرة، لكن اللافت أن سوق هذه المادة آخذ بالتراجع في لبنان، تقول زينة "لم أعمل بهذه المادة طيلة حياتي، لكن بإمكاني أن ألحظ كم تراجع حجم الطلب عليها، وازداد حجم وعي الناس تجاه خطورتها حتى المتعاطين، كذلك انخفض عدد تجارها كثيراً."
تشير لينا خوري، مديرة دائرة التواصل وتطوير البرامج في جمعية "أم النور" للعلاج من الإدمان، إلى أنه "في السنوات العشر الأخيرة تقريباً ظهرت أنواع جديدة من المخدرات وانتشرت لتأخذ مكان الأصناف الكلاسيكية المعروفة في السابق، وتغير معها سلوك المدمن بات أذكى وانتقائي أكثر، صار يستهلك وقتاً أطول ليطلب المساعدة، ويأتي السعر الرخيص مساعد أكبر في ازدياد الأعداد وارتفاع في كميات الاستهلاك الفردي أيضاً."
من جهته يرى الدكتور رمزي حداد، أحد مؤسسي جمعية سكون للعلاج من إدمان المخدرات، أن استخدام دواء الـ “أبومورفين" لعلاج المدمنين على الهيرويين في لبنان، وعلى مدى نحو 10 سنوات ماضية، ساهم في تراجع أعداد متعاطي هذه المادة والعائدين إليها بعد العلاج.
الـ "كيتامين" السوري و"السالفيا" اللبنانية
يطلق على مادة "السالفيا" في لبنان وصف "مخدر الفقراء"، نظرا لانخفاض سعرها بالأساس، حيث كان يتراوح سعر الكيس منها الكافي لإعداد نحو 5 سجائر 20 ألف ليرة لبنانية، سعر الكيس نفسه لا يزال بـ 25 ألف ليرة لبنانية. "هذه المادة من أكثر المواد خطورة" يقول "بودي"، أحد مروجي المخدرات في بيروت، ويضيف أن مشكلتها تكمن في كونها باتت تنتج في المنازل وبطبخات تتنوع كيميائياً حسب التاجر والهواة، بعضها يحتوي اسيتون وبعضها كيتامين وأحيانا يصنعونها بأدوية معدة لقتل الصراصير، وتباع باسم نبتة "السالفيا" فيما طبخاتها الكيميائية تشبه "السبايس" أي الحشيش الصناعي.
بالنسبة إلى هذه المواد، يشرح الدكتور حداد أن خطورتها تكمن في كونها لم تخضع لدراسات واختبارات تحدد تأثيراتها الذهنية والجسدية، كذلك لم يمض على استعمالها وقت كافٍ لتحديد الآثار بعيدة الأمد، وقد تكون خطورتها أكبر بكثير مما يراه المتعاطون لها. فيما تؤكد خوري أنه "كلما ازداد الغش في المواد وإضافة مواد أخرى وجديدة، كلما أدى إلى تعريض المتعاطي لمخاطر صحية إضافية واضطرابات نفسية ونصبح في مكان مختلف وأعقد من الإدمان."
من جهة أخرى تكتسب مادة "الكيتامين" سوقاً حديثاً ومتنامياً في لبنان، وتوصف بالمخدرات الجديدة كما هو حال حبوب الإكستاسي والترامادول والكابتاغون، هذا المخدر الطبي كان يأتي غالباً من دول أوروبية مصنعة له كألمانيا ويباع وفقاً لأسعار استيرادها، الإغلاق العالمي وصعوبات وتكلفة الإستيراد، خلقت سوقاً آخراً للمادة مصدرها مصنع طبي سوري في حلب، بأسعار أرخص بكثير مما كان يصل من أوروبا، تقول زينة إن سعر "فايل" الكيتامين الألماني "كان يتراوح بين ال20 وال30 دولاراً أي نحو 40 ألف ليرة، اليوم استلم الكيتامين السوري المهرب عبر الحدود بـ17 ألف ليرة لبنانية وقد يصل سعره بيعه بالحد الأقصى 30 ألف ليرة حسب الزبون."
"حبوب الحدود"
الأمر نفسه ينطبق على حبوب الإكستاسي والـ MDMA لناحية حداثة سوقها في لبنان واستيرادها من الخارج، هذه الحبوب توقف استيرادها بعد جائحة كورونا وانخفض استخدامها عالمياً بسبب الإغلاق الشامل للملاهي الليلية والمراقص حيث تستخدم بالدرجة الأولى.
"بودي" يروج لهذه الحبوب في عدد من الملاهي الليلية في بيروت، يؤكد لموقع "الحرة" أنه "ومع الأزمة المالية بات استيرادها أيضاً شبه منعدم إلا من حالات فردية، واستبدلت بمنتجات محلية معدل عليها لناحية نسب المواد المخدرة فيها ونوعيتها، وباتت في حالات كثيرة تحتوي مواد أخرى كتلك المستعملة في إنتاج الكابتاغون وغيرها من عائلة "الأمفيتامينات" قد تحمل خطورة أكبر في بعض الأحيان.
لا يزال سعر الحبة يتراوح بين الـ 20 والـ 50 ألف ليرة حسب العيار، الإقفال وضعف الإقبال ساهم باستقرار سعرها لتصريف التجار إنتاجهم، ثم حين بات إنتاجها محلياً واستقدمت مكابس حبوب إلى المناطق النائية والحدودية في البقاع بقي سعرها على ما هو عليه، فيما المستورد من الخارج يباع بالدولار."
أما الكابتاغون فيكاد يصبح علامة مسجلة للمنطقة الحدودية بين لبنان وسوريا، ومنها يتم توزيعه على السوق اللبنانية وأسواق المنطقة بأسرها، حيث أنتجت الحرب السورية واقع انفلات تام للقرى والمناطق الحدودية السورية مع لبنان وداخله من قبضة الدولة اللبنانية، لاسيما بعد استباحة حزب الله للحدود وسيطرته على معابرها خلال مشاركته في الحرب.
ازدهرت في تلك المنطقة عملية تصنيع الكابتاغون بتكاليف زهيدة، حيث يؤكد "حسن" أن الحبة الواحدة تكلف نحو 250 ليرة وكانت تباع بـ 1000، اليوم لم يختلف الأمر كثيراً، 1500 أو 2000 ليرة بحده الأقصى، السوق كبير والطلب لا يتوقف عليها وميزتها سعرها الرخيص، قبل الإنهيار وبعده لا يزال سعر الحبة أقل من دولار واحد".
مخاطر كبيرة بين السعر والتوقيت
تؤكد خوري أن "الأزمة الاقتصادية الراهنة وتداعياتها إضافة إلى الإغلاق العام والتزام المنازل بسبب كورونا، كلها أسباب ترفع من نسبة اللاجئين إلى المخدرات والانتكاسات للمتعاطين، فالضغط النفسي هو من أبرز الدوافع المشجعة على تعاطي المخدرات، وفي مركز "أم النور" لاحظنا هذا العام ارتفاعا كبيراً في أعداد الذين يطلبون المساعدة، وفي حالات الانتكاسات للمدمنين السابقين أيضاً، وبحسب تقريرنا السنوي الذي نعمل على إصداره خلال الأسابيع المقبلة فإن نسبة الارتفاع تصل إلى 20% عما كانت عليه قبل ثورة 17 أكتوبر 2019."
وتختم خوري "في المقابل أيضاً فإن رخص الأسعار يرفع عن المتعاطين هاجس التكلفة المرتفعة ويخفف من الذنب الناتج عن شراء المخدرات في ظل الأزمة الاقتصادية التي تضع أولويات أمام الناس ومصاريفها. ولكن لا تقتصر الدوافع على الأزمة الاقتصادية والصحية، وإنما أيضاً لا يمكن أن ننسى الصدمة النفسية الجماعية التي يعيشها اللبنانيون نتيجة انفجار مرفأ بيروت والحالة الأمنية وتأتي آثار الصدمة النفسية في السنوات المقبلة، كما حصل مع جيل الحرب الأهلية الذي عانى آثار الصدمة بعد انتهاءها ولا تزال آثرها في المجتمع حتى اليوم، في هذه الحالات والأوقات من المتوقع أن يزداد للأسف اللجوء إلى المخدرات والمسكنات والإدمان عموماً هروباً من آثار الصدمة والضغط النفسي."