لقد أمضيتُ في المملكة المغربية أكثر من خمس سنوات، بين عامي 1963 و1968 من القرن الماضي؛ في بواكير استقلال المغرب عن فرنسا 1956 ، وقد عملت في ميدان التعليم، مدرسا للتاريخ والاجتماعيات، في مدينة "سلا" على الضفة اليمنى لنهر "أبو رقراق"، في حين "رباط الفتح" على ضفته اليسرى، في منطقة تستقطب الكثير من الأمجاد والمآثر التاريخية، من مختلف العصور، من الفينيقيين، والرومان، والفندال، والعرب المسلمين، والمرابطين، والموحدين، والعلويين؛ مرورا بإمارة (بورغواطة 740-1986) ، وإمارة (مغراوة 986-1061)، وهكذا تعرفت إلى أسماء أعلام وأسر كثيرة، قد استقرت في سلا والرباط، في أعقاب سقوط غرناطة الأندلس، آخر معاقل الحضارة العربية الأندلسية عام 1492، وقد نزح من الأندلس، في ذلك الوقت أكثر من ثلاثة ملايين من مسلمي العدوة الأندلسية، وبمعيتهم الكثير من اليهود، الذين ارتبطوا بالعرب طيلة 800 عام، قضاها العرب في شبه جزيرة "أيبيريا" وجزر البليار، ولم ينسَ العرب اليهود الذين عاشوا في ذمتهم ضحايا لمحاكم التفتيش التي أقامتها "ايزبيلا وفرناندو" للقضاء على الحضارة العربية في آخر معاقلها غرناطة وسلطانها (أبو عبد الله الصغير).
كنت أمر كل يوم عبر أسوار التاريخ المجيد، وأبوابه العظيمة، هذا باب "سيدي بو حاجة"، وهذا "باب سبتة"، وذاك "باب شعفة"، وغيرها من الأسماء ذات الشأن في الماضي، والحاضر، والمدلول، هنالك على فرضة سلا، على المحيط؛ مقبرة (سيدي بن عاشر) الذي قدم من عراق العز في عصر العز والكرامة والحضارة، وقد ترك في تراث المغرب إضافة نيرة من تراث المشرق في قواعد النحو والصرف شعرا؛ وترى المغاربة يضبطون على قيثارتها قواعد اللغة وأساسياتها.
وإذ نعبر النهر الخالد "أبو رقراق"، من قنطرة (محمد الخامس) باتجاه رباط الفتح، ترى قصبة "الوداية" على يميننا تتمرغ في حضن المحيط، وضفة "أبو رقراق"، تحتضن أشكالا وألوانا من روائع التاريخ الباذخة من أمجاد العدوتين الأندلسية، والمغربية، وتتغنى بروائعها وجمالاتها، التي لا تعد، ثم تأخذ بنا إلى مأثرة أخرى، من مآثر الحضارات الأولى تدغدغ المشاعر والآمال في مستقبل واعد، إنها ( شلّا) موئل الأمجاد على مهاد التأسيس لكل من "سلا" و"الرباط" على مدارج التاريخ.. ولعل ما تبقى من أسوار رباط الفتح، وأبوابه، وما يحف به من مآثر ومفاخر، تختصر "بانوراما" عز لا يبيد.
في هذه البانوراما الرائعة، بموروث خالد لا يبلى، ومن حضارات ومآثر الشرق والاندلس، والاطلس، والصحراء الكبرى؛ وقد مثلت على بطاحها وجبالها، وسهولها، وسواحلها اشراقات العروبة الفينيقية، والبونيقية، من "أمازيغ" زناتة، وبرواطة وصنهاجة وسجلماسة ومغراوة وغيرها، ممن أنجبن دولا وامبراطوريات، انطبعت بوقار واحترام، في مسميات لا تنسى بين " نوميديا، وموريتانيا، وقرطاج وغيرها، رسمت على جنباتها غزليات التاريخ والعراقة، لا تزال أوابدها (بقايا المعالم التاريخية) تغني روائعها، في مراكش، وسجلماسة، وليلى، وفاس، ومكناس والرباط وسواها في العدوة المغربية، وفي اشبيلية، وقرطبة، وطليطلة، وغرناطة في إيبيريا (اسبانيا والبرتغال وتخوم البرنية، وأعماق الاطلس المتوسط).
نعم، في هذه البانوراما الباذخة في العظمة والامجاد، في ظلال رايات العروبة، وآيات السماء المقدسة، امتزجت بحضارات هزت العالم بروعات وجماليات على مدى العصور، وحتى يومنا.
المشارقة في نظر المغاربة
يقول العلامة (توفيق المنجد) في كتابه (المشارقة في نظر المغاربة) إن المغاربة قد خصوا بلاد الشام محبة خاصة، دون سائر ديار المشرق، وإن المغاربة كانوا يجدون فيها كل الاحترام والتقدير، وإن الكثيرين منهم قد طاب لهم المقام فيها؛ حتى امتزجوا بالحياة، وقد أسلمت لهم القياد والعطف والحنان.
وهكذا؛ فإن باب المغاربة في سور القدس، يفضي إلى الحي المغربي، الذي اقامه صلاح الدين الايوبي، في القرن الثاني عشر الميلادي للجند المغاربة الذين ساهموا في معركة حطين وفتح بيت المقدس بعد الانتصار على صليبية الفرنجة، وكذا حارة المغاربة في دمشق ، وآلاف من أسماء العائلات المغربية والاندلسية في المدن والقرى والحواضر الفلسطينية والشامية، وما تسلموا من مناصب، في مختلف مناحي الحياة؛ بما يشي بعمق وجداني من أقدم العصور، وحتى يومنا.
وما "ابن بطوطة" الرحالة الطنجي إلا مثال من آلاف الامثال؛ قد خلدت ذكراه بلادنا، في فلسطين بزواجه من نابلس، التي احتضنت ابنه، قبيل عودته الى طنجة، وما عائلة "البطوطي" في نابلس إلا أثر خالد من هذا الرحالة الكبير، في العصر "المريني" في فاس.
وحدث ولا تهب عن آلاف الأمثلة والمناصب في الدولة والحياة العامة، لا تزال تربط بيننا بروابط المحبة والوفاء.
ولتأكيد هذه المجريات يطيب لي أن أنبه بما وجدته من حفاوة وتكريم، ومحبة واحترام، لدى قدومي إلى المغرب 1962، وقد امتدت زهاء خمس سنوات، أمضيتها ممتعا بكل التقدير، على كل الأصعدة.
وعليه أستطيع القول إن محبة المغاربة لفلسطين وشعبها محبة متميزة، ولا يمكن نسيانها.
هذا ولقد تشرفت بالتعرف إلى عدد من القيادات السياسية والفكرية والعلمية، وقد أكدوا لي حبهم وتأييدهم لكل قضايا المشرق، ولا سيما قضية فلسطين، وعمق محبتهم لشعب فلسطين.
لقد تعرفت منذ أيامي الأولى في المغرب إلى أعلى مقام سياسي هناك –بعد الملك- تعرفت إلى المرحوم علال الفاسي، رئيس حزب الاستقلال، أكبر حزب مغربي، يحتضن القضية الفلسطينية، كما تعرفت إلى الشخصية العظيمة السيد جعفر الكتاني، أحد مناضلي الاستقلال المغربي، وقد كان والده المغفور له الفقيه المكي الكتاني، الذي كان في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، مفتيا للديار السورية في دمشق، وكنت على علم بأحد رؤساء سوريا في سنوات الاستقلال الاولى، رئيس الجمهورية في سورية تاج الدين الحسني، وهو من ابناء المغرب، كما شهدت الشيخ المرحوم، أبو اليسر عابدين، مفتيا لسوريا آنذاك، وعرفت الكثيرين من العائلة المغاربية قيادات سياسية وفكرية واجتماعية، من صميم نسيج الحياة في بلادنا سادة بامتياز بكل معاني الحب والوفاء.
أول بعثة تعليمية مغربية إلى الخارج
يذكر التاريخ أن سلطان المغرب، محمد بن عبد الله، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، قد أوفد أول بعثة تعليمية مغربية إلى الخارج، بعثها إلى فلسطين، وكانت مؤلفة من ثلاثة أشخاص، إلى نابلس والقدس، إجلالا لمكانة فلسطين القدسية والعلمية، وأمثلة اخرى كثيرة.
والحقيقة أنني قد وقفت على شاطئ المحيط في منطقة "الوداية - الرباط" أذكر القائد الفاتح، موسى بن نصير، يخاطب المحيط بالمضي على ما وراءه، وإذ بشابين مغربيين يأتيان للترحيب بي، وقد احتضناني بكل الحفاوة والترحيب والأخوة، ما زالت علاقتهما بي إلى يومنا.. ذكريات كثيرة، لم تزدها الأيام إلا المزيد من وشائج المحبة رغم ما أثارته زوبعة وأعفار الصهيونية، التي هبت مدوية في الآونة الاخيرة، فيما عرف بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، الغاصب لفلسطين، وأراضٍ عربية، في أكبر تعد واغتصاب تأباه الشرعة الدولية وحقوق الانسان، وتستنكره القيم، والأخلاقيات الأدبية.
عجبي للمغرب كيف تدحرج إلى هذه الهوة السحيقة، ناسيًا أو متناسيًا أواصر المحبة والإخاء مع فلسطين وشعبها العريق، الذي تنتسب إليه قبيلة زناتة، وبورغواطة، ومغراوة من الأمازيغ – الشلوح.
لن أستغرق كثيرا في تعداد الروابط بين فلسطين، بلاد كنعان، وبين صنهاجة وكتامة، والمرابطين والموحدين من العرب العاربة، في الجغرافية المغاربية.
لعله البعد الجغرافي، والخلافات والصراعات المحلية في أعماق وأطراف المسرح الجغرافي والجفاء الجيوبولتيكي إبان الاحتلالات الأجنبية الحاقدة في كل الساحة بين المشارق والمغارب. لعل، ولعل عوامل كثيرة لا مجال للتفصيل فيها في مقالة كهذه.
آخر "لعل" هو الاعتقاد بأن اليهود في المغرب، يعتبرون مغاربة، وأن ولاءهم لسلاطين وملوك "العدوة المغربية" منذ الخروج القسري من الأندلس للعرب، الذين ظلوا على كفالتهم لحماية اليهود، معاهدين وأهل ذمة.
وهنا أذكر أسماء وزيرين من اليهود المغاربة، كانا عضوين في وزارات سنوات الاستقلال الأولى؛ أحدهما كان الوزير باروخ، وزير التموين آنذاك، والوزير الأخير، ألبير صماما، وزير البرق والبريد والهاتف، وآخرين من وظائف سامية، في كل مفاصل الحكومة، والقصر الملكي، والحياة العامة، وتحت كفالة الذات الملكية، باعتبار اليهود (رعايا مغاربة) ولا يسمح لأحد أن يحتج أو يعلي صوته بغير ذلك.
الخلاصة أن بين فلسطين والمغرب أكثر من 3 آلاف كيلو متر، في حين قامت كيانات مشتركة مع فلسطين في حدودها وتاريخها وموقعها ومختلف مناحي الحياة فيها، بانبطاح استسلامي ووريت أمامها حقوق فلسطين وشعب فلسطين.
وأخيرا.. إنه الوباء العربي الأعمى الذي لا شفاء منه إلا بإرادة السماء وعزم حملة السلاح والمقاومة في كل الساحات. وَظِلُّ صلاح الدين وعساكر المرابطين والموحدين يمتد على الرغم من كل الأبعاد والمسافات، وأن نداءات الكرامة والشرف والمروءة لا بد أن تسمع، لأنها إرادة السماء ولغة الضمير، والجزر دائما يتبعه المد.