كانت موريتانيا الدولة الخامسة الأقرب لتوقيع اتفاق تطبيع مع دولة الاحتلال، أي كانت الدولة التالية للمغرب في سُلَّم التطبيع قبل رحيل ترامب، ولكن هذا لم يحدث ولم تنزلق موريتانيا نحو التطبيع كما انزلقت إليه غيرها من الدول المعروفة عند القارئ.
موريتانيا ليست من الدول العربية الغنية، وليست من الدول الصناعية، وليست من الدول ذات القدرات العسكرية، والكثير من سكانها يعتمدون على الرعي وعلى صيد الأسماك، حيث تغلب على أراضيها الطبيعة الصحراوية، ولكن موريتانيا تعد دولة المساجد والمآذن في العالم العربي، وهي دولة علماء الدين والشريعة، وربما كان شعبها الأكثر تعاملًا ونطقًا للعربية الفصيحة.
بلد المآذن -إنْ صحَّت هذه التسمية- قرر علماؤها بعد دراسة فقهية وشرعية أن تطبيع العلاقات مع دولة (إسرائيل) حرام شرعًا، وفاعله آثم، ووقَّع وثيقة الفتوى مِئتا عالم من كبار علماء البلاد، على رأسهم الشيخ محمد الحسن ولد الدده. ومن يعرف موريتانيا وتركيب البنية الاجتماعية فيها، وتركيبة بنية الدولة هو الوحيد الذي يُمكنه تقدير أهمية هذه الفتوى وتأثيرها على صاحب القرار في الدولة، ومن لا يعرف ما تقدَّم لن ينظر باحترام لهذه الفتوى وسيمر بها مرور الكرام.
رجال الجيش في موريتانيا، وشبوخ القبائل يحرصون على حيازة رضا العلماء، ويعلون من قيمة فتاويهم الشرعية، ونحن في فلسطين حيث نعيش الاحتلال نعرف أن الشريعة والفتوى هما طريقنا المنير نحو المستقبل، ونعرف أن من فات الفتوى فاتته الدنيا والآخرة وكان من الخاسرين، لذا نقف إجلالًا واحترامًا لرجال الفتوى في موريتانيا، وندعو علماء الشريعة والدين في كل بلد من بلاد العالم العربي أن يحذو حذو علماء موريتانيا، وأن يتبنوا فتواهم، وأن يتولوا نشرها في شعوبهم، لتكون الشعوب والفتوى الحصن الحامي للقدس والمسجد الأقصى.
كانت الفتوى حصنًا لحكام المسلمين، يُسيِّجون بها أنفسهم وحكمهم، وقد حمتهم الفتوى من الأعداء، ومن الفتن الداخلية، والمخالفات الشرعية، وما ضعفت البلاد الإسلامية إلا بعد ضعف الفتوى، وافتراق الحكام عن العلماء، وترك العلماء مُهمَّتهم خوفًا من بطش السلطان. إن فتوى علماء موريتانيا هي لبنة كبيرة لتجديد دور الفتوى والعلماء في توجيه سياسات الحكام، وفيها -في الوقت نفسه- براءة شرعية من مخالفات السلطان. الدين في جانب فلسطين، وقلة الدين في التطبيع.