أشاع رحيل دونالد ترامب غير المأسوف عليه شعوراً عالمياً بالارتياح. وترافق ذلك مع سلسلة من القرارات الرئاسية التي اتخذها بايدن، لإلغاء جزء من الدمار الذي سبّبه ترامب، بما في ذلك عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية المناخ العالمي، وإلى منظمة الصحة العالمية، وإلغاء بناء الجدار على حدود المكسيك، وإلغاء التمييز والقيود على دخول مواطني دول ذات غالبية إسلامية. وكما كان متوقعاً، لم تشمل القرارات الجديدة تغييراً جوهرياً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بل أكد وزير الخارجية الجديد، أنتوني بلينكن، تمسّك الولايات المتحدة بإبقاء سفارتها في القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، من دون أي ذكر لها عاصمة لفلسطين، مع حديث عام عن تمسّك بايدن بحل الدولتين، ودونما إشارة إلى التوسع الاستيطاني الذي استقبل به نتنياهو إدارة بايدن الجديدة في يومها الأول، ومع ترحيبٍ مبالغ فيه في عمليات التطبيع بين دول عربية و"إسرائيل".
ما هو المتوقع بعد ذلك؟ حتى لو ألغت الإدارة الجديدة بعض القرارات المجحفة تجاه الفلسطينيين، كإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وأعادت المساعدات المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والسلطة الوطنية الفلسطينية، فإن الإدارة الأميركية لن تتجاوز الصيغة العامة والمائعة في الحديث عن "مفاوضات" و"حل الدولتين".
وقد نشهد اجتماعاتٍ جديدة للرباعية الدولية، وحديثا عن بدء مفاوضات جديدة، ولكن الخطر سيبقى متجسّداً في استمرار حكم اليمين الإسرائيلي الذي سيواصل، في ظل "الحديث عن المفاوضات"، تطبيق صفقة القرن والضم من خلال التوسع الاستيطاني، وعمليات التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، خاصة في مناطق ج من الضفة الغربية. وأسوأ ما يمكن أن يحدث أن نعود إلى سنوات أوباما - بايدن من مفاوضاتٍ عقيمةٍ بلا نتيجة، تستعملها "إسرائيل" غطاء للتوسع الاستيطاني، لتغيير الأمر الواقع على الأرض، ولتصفية إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتكريس نظام الأبرتهايد العنصري الإسرائيلي على الأرض. وبذلك، يتكرّر ما جرى حوالي ثلاثين عاماً منذ وقّع اتفاق أوسلو باستخدام "عملية السلام" بديلا للسلام، و"المفاوضات" بديلا للحل. .. هذا هو التحدّي الذي يواجه الشعب الفلسطيني في ظل اختلال ميزان القوى لصالح "إسرائيل".
خلاصة القول، لن يحقق الفلسطينيون شيئاً بالعودة إلى المراهنة على ما فشل سابقاً، أو على حسن نيات إدارة بايدن، والاستمرار في التمسّك بأهداب المفاوضات. وفي مقابل استمرار انغلاق الأبواب القديمة، هناك، دونما شك، فرص كبرى تنفتح أمام الشعب الفلسطيني. أولها افتضاح منظومة الأبرتهايد العنصرية الإسرائيلية، خصوصا بعد انكشاف ما صار معروفاً "طب الأبرتهايد" في واحد من أسوأ أشكال التمييز العنصري الذي تمارسه "إسرائيل" في موضوع توفير اللقاحات ضد وباء كورونا.
وتترافق هذه الفضيحة مع عودة التركيز الشعبي في الولايات المتحدة، ودول كثيرة، على مكافحة العنصرية و"تفوّق العرق الأبيض" وعلى مناصرة حقوق الإنسان، ومع التغييرات البنيوية التي يشهدها جيل الشباب في الحزب الديمقراطي، ونشوء مجموعةٍ لا تقل عن عشرين عضو كونغرس مناصرين لحقوق الشعب الفلسطيني.
الفرصة المتاحة فلسطينياً اليوم تكمن في التركيز على ما قلناه عشرين عاماً، وما تجرّأت أخيراً بعض منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية، كـ"بيتسيليم" على الاعتراف به، وهو أننا نواجه ليس فقط احتلالا بغيضاً، بل نظام أبرتهايد إسرائيلياً كاملاً، يشمل كل مكونات المنظومة الإسرائيلية، ويمارس اضطهاداً عنصرياً ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والداخل (أراضي 1948)، وضد اللاجئين الفلسطينيين المهجّرين بالقوة والمحرومين من حقهم في العودة إلى وطنهم.
لن تستطيع "إسرائيل" مقاومة الهجوم على منظومة الأبرتهايد برمّتها، كما استطاعت أن تفعل سابقاً تجاه نقد الاحتلال بحجة الأمن والاحتياجات الأمنية. ويتطلب ذلك كله حواراً فلسطينياً جادّا، لتحقيق إجماع وطني على هدف الحركة الوطنية الفلسطينية الذي يجب أن يكون أوسع من مجرّد إنهاء الاحتلال الأطول في التاريخ البشري، ليشمل إسقاط كل منظومة الأبرتهايد الإسرائيلية، ما يمكن أن يفتح للنضال الوطني الفلسطيني وحركات التضامن العالمية معه آفاقاً بلا حدود. ولكن هذه الفرصة ترتبط كلياً بضرورة معالجة الوضع الداخلي الفلسطيني، وتحقيق الوحدة المنشودة سياسياً وتنظيمياً وكفاحياً. ومع التأكيد مجدّداً على أن أحداً لن يعبأ بقضية فلسطين إن لم يضعها الفلسطينيون بأيديهم وبنضالهم على الساحة العالمية والمحلية، من منطلق أنه "ما حكّ جلدك مثل ظفرك".
لتحقيق ذلك، لا بد من معالجة فورية لحالة الانقسام، بما يضمن إنجاز الانتخابات الديمقراطية التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني الفلسطيني، في إطار إنهاء الانقسام، وليس في معزل عنه، فإجراء الانتخابات مع استمرار الانقسام سيهدّدها بالفشل، وإن تمت فستكون نتيجتها تكريس الانقسام بدل إنهائه. ولا يجوز النظر إلى الانتخابات التي طال انتظار الشعب الفلسطيني لها بعد أن حرم منها 14 عاماً، باعتبارها مجرد فعل لتجديد للشرعيات، بل يجب أن تكون أداة لتقوية البنيان الفلسطيني في مواجهة "إسرائيل" والاحتلال ونظام الأبرتهايد والمؤامرات على القضية الفلسطينية.
هناك فرص كبيرة، وهناك مخاطر، وبإمكان الشعب الفلسطيني أن يغلّب الفرص على المخاطر، إن توفرت النية والإرادة الصادقة لمن يحملون لواء المسؤولية.