فلسطين أون لاين

بعد 18 عامًا في سجون الاحتلال

"محمد جابر" يعانق الحرية ويقرع باسم الأسرى جرس الإنذار

...
صورة تعبيرية

كانت الليلة الأخيرة خلف القضبان الإسرائيلية طويلة، اختلطت فيها مشاعر متناقضة، تارة فرحًا بتنفس عبير الحرية، وأخرى حزنًا على أصدقاء تتلقفهم رياح المعاناة من كل جانب داخل عالم "المنسيين" في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

لم يكن اليوم الأخير للمحرر محمد جابر، الذي أُفرج عنه أول من أمس، أقل ثقلًا من 18 عامًا قضاها داخل سجون الاحتلال، كان يغفو غفوته الأخيرة على "حلم الحرية"، يحن إلى غزة شوقًا لمعانقة والدته التي لم يرها سوى اثنتي عشرة مرة طيلة مدة الأسر.

وأنت تتحدث إلى إنسان أمضى جل حياته خلف القضبان، يجب عليك أن تستمع بقلبك إلى ما سيقوله ويرويه عن تلك الذكريات، وتنصت أكثر حينما تتوقف عند أحزان لا يمكن تخيل شكلها، لم تكن مدة حواره مع صحيفة "فلسطين" لـ17 دقيقة كافية لعرض قصة مليئة بالأحداث والمواقف، ولكننا مررنا على أهم المنعطفات التي عاشها "جابر" داخل الأسر.

كيف أمضيت آخر يوم؟ كان سؤالنا الأول له كفيلا بإخراج تنهيدة طويلة محملة بالقهر والمعاناة: "أتدري، لم أصدق أنني خارج، وأن عذابات السجن وآلامه أخيرًا ستنتهي (..) قدر الله أن أعيش آخر اللحظات في عيادة سجن الرملة بعد اشتباه الاحتلال بإصابتي بفيروس كورونا، وأمضيت أربعة عشر يومًا، إلى أن ظهرت النتيجة سلبية".

ما زالت المشاهد التي رآها داخل سجن الرملة ترافقه: "لك أن تتخيل أن ترى ستين أسيرًا مريضًا، تسمع أصوات أوجاعهم ليلا ونهارا، ولا يدري بهم أحد، ترى أسيرًا مبتورًا يساعده الأسرى في كل شيء، أليس مكانه عند أهله؟ مهما تحدثت لن أعبر عن واقع الأسرى هناك".

انتهى الحكم وغادر أبواب السجن، وعانق لأول مرة غزة التي غادرها شابا صغيرًا لم يزد عمره حينها على الثالثة والعشرين، ففي السابع عشر من يناير/ كانون الثاني عام 2003م خاض اشتباكا مع الاحتلال شمال قطاع غزة في عملية للمقاومة الفلسطينية، وقدر له أن يقع أسيرًا بين يدي قوات الاحتلال.

ينفض غبار ذلك اليوم عن ذاكرته: "ألقى الاحتلال القبض عليّ بعد الاشتباك، وقيدت وبدأت رحلة تحقيقات قاسية مدة ثلاثة أشهر، لم أذق طعمًا للنوم إلا قليلا، وإن نمت كانوا يزعجونني، ثم وضعوني بغرفة تضم أشخاصًا عرفوا أنفسهم أنهم مقاومون وكنت أتحدث معهم ووثقت بهم لفرط تقربهم مني وتلبية كل احتياجاتي، واكتشفت أنهم في النهاية عصافير (مصطلح يطلقه الأسرى على العملاء داخل السجن) اعترفوا عليَّ ومن ثم حكمت ثماني عشرة سنة".

لم تمحُ الذاكرة رحيل والده في أثناء وجوده بين جدران السجن، كان يمني النفس أن يراه يتنفس الحرية بقربه.. بدا جابر متألما وهو يتحدث بصوت حزين، ليضيف: "كذلك عانت أمي المرض في أثناء الأسر".

خرج المحرر جابر من الأسر مودعًا مرارة السجن، يحمل معه سنوات عمره الواحدة والأربعين ليعانق الصورة المعلقة في صدر البيت، وقد بات تحت الثرى: "كان يمني نفسه بأن يعانقني بعد أن انتظرني طويلا"، قالها بعد أن تحشرج صوته.

خنقت الدموع صوته: "أمضيت 18 عامًا في السجن ولم يزرني والداي سوى 12 مرة، أما أبي الذي توفي عام 2009م فبالكاد استطاع زيارتي مرتين حيث كانت تُرفض زيارته بدعوى أني ممنوع أمنيًّا".

في السجن قد تكون مراسم الفرح أكثر وطأة على القلب من الحزن نفسه، عن ذلك تطير ذاكرته للسجن: "تمر عليك مناسبات مثل الأعياد تمضيه حزين وأنت بعيد عن أهلك، يمر عليك يوم العيد وكأنه يوم عادي".. صمت قليلا قبل أن يضع نقطة النهاية هنا: "كان وقع الأعياد ثقيلا على قلبي".

ما إن وطأت قدماه حارته بمدينة غزة، حتى أزال مشهدُ العمارات السكنية التي تغطي منطقته مشهدًا احتفظ بذاكرته لشكل حارته، فلم تعد بيارات البرتقال والليمون موجودة، ولم يعرف من المشهد الجديد سوى شكل الشوارع الرئيسة التي لم تكن معبدة آنذاك.

ويفتح "جابر" رسالة حمَّله إياها الأسرى وكأنه يقلب كتابًا معنونًا بفصول الوجع والمعاناة: "صحيح أني أشعر بالحرية والفخر لأني ضحيت من أجل القدس، لكن تركت الأسرى في واقع مأساوي صعب، اقتحامات وضرب وإهانة وعدم توافر إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، في جو بارد قارس، فالكثير منهم يحتاجون للأغطية ولم يتقاضوا مخصصاتهم الشهر الفائت، وهناك أسرى منشغلون بحال أبنائهم في الخارج، لا أحد يهتم بهم للأسف، ويجب على المجتمع مناصرتهم".