مما لا شك فيه أن التطور التكنولوجي الرهيب والمتسارع أضحى أبرز السمات التي تميز عصرنا الحالي، فعملية التزاوج بين ثورة المعلومات وثورة الاتصالات باتت سهلة وميسرة، بل انعكست هذه العملية على مناحي الحياة المختلفة، فلا يكاد يخلو مجال سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي من جملة واسعة لأحدث التقنيات الرقمية، والمستحدثات التكنولوجية، التي فرضت علينا بالضرورة حتمية توظيفها واستخدامها والتعامل معها، وربما الشعور بالنقص والتوتر في حال الانقطاع المفاجئ عنها.
وحالات الطوارئ والأزمات الآنية التي تطفو على السطح من مدة إلى أخرى هي أحد العوامل التي ساهمت في انتشار وتوسع مجالات توظيف تلك المستحدثات التكنولوجية، ومثال ذلك: "الحروب، والكوارث الطبيعية"، وأخيرًا وليس آخرًا أزمات المجال الصحي كانتشار الأوبئة والأمراض، وجائحة كورونا (COVID-19) آخر الأمثلة الحية على ذلك، إذ أُجبرَ العالم أجمع على اتباع أسلوب حياة جديد وغير معتاد، قائم على معايير التباعد الاجتماعي بالدرجة الأولى.
وما يهمنا في هذا الحديث هو تأثير تلك الجائحة على المستوى التربوي والتعليمي، إذ أجبرت الجائحة المؤسسات التعليمية على إغلاق أبوابها أمام ما يزيد على 400 مليون متعلم، ووفقًا للبيانات الصادرة عن يونسكو إن إغلاق المدارس بسبب تلك الجائحة ترك واحدًا من كل خمسة متعلمين خارج أسوار المدرسة على مستوى العالم، وهذا التأثير طال أيضًا مؤسساتنا ومدارسنا في الأقاليم العربية والإسلامية.
وبناءً عليه ظهر مفهوم التعلم عن بعد (الإلكتروني) خيارًا بديلًا وتطبيقًا عمليًّا مقترحًا لمواجهة تأثيرات هذه الجائحة على مستوى التعليم، وهو النوع من التعليم الذي يرتبط باستخدام وتوظيف الإنترنت والحواسيب والتقنيات الرقمية والسحابية في عمليتي التعليم والتعلم دوت التقيد بالزمان أو المكان، وقد اجتهد معلمونا في توظيف التعليم الإلكتروني على قدر استطاعتهم، فنتج عن ذلك حالة من الاضطراب والفوضى والشعور بعدم القدرة على التعامل مع هذا النوع من التعليم، خصوصًا في مراحل رياض الأطفال والتعليم الأساسي، نتيجة طبيعة لمآخذ هذا النوع من التعليم مقابل التعليم الوجاهي، التي تتمثل في: انخفاض دافعية التلاميذ، وصعوبة تقييم إنجازاتهم، وعدم اقتناع كثير من أولياء الأمور بجدوى التعليم الإلكتروني، ووجود عدد كبير من المعلمين والتلاميذ الذين يفتقدون مهارات التعامل مع هذا النوع من التعليم، وختامًا فقدان العامل الإنساني في عملية التعليم والتعلم.
وفي ضوء تلك المآخذ الواقعية ظهرت مجموعة من المفاهيم والمبادرات التربوية للتخفيف من وطأتها وحدتها، ومن ضمنها مفهوم "أنسنة التعليم عن بعد"، وهو مصطلح قديم حديث، يعبر عن "الآليات والإجراءات التي تستهدف تفعيل القيم الإنسانية بين عناصر العملية التعليمية، بمعنى جعل العملية التعليمية تدور حول الحاجات الإنسانية للمعلم والمتعلم بدرجة أساسية.
ونحن نقصد بمفهوم "أنسنة التعليم عن بعد" تلك الحالة التي نستدعيها لمواجهة سلبيات هذا النوع من التعليم، الذي أدى إلى إفراغ العملية التعليمية من مضمون العلاقات الإنسانية، نتيجة طبيعية لاعتماده على الحواسيب، وشبكات الإنترنت، والتقنيات المرافقة لها بشكل أساسي.
فهيمنة التكنولوجيا على العلاقة بين المعلم والمتعلم، وحضورهما في الواقع الافتراضي أكثر من حضورهما في الحياة الواقعية مسوغ منطقي للمطالبة بأنسنة التعليم عن بعد، تلك الأنسنة التي تدعونا لاعتماد أن يكون الهدف الأسمى للتعليم عن بعد كل أشكاله وأنماطه هو خدمة الإنسانية فعلًا لا قولًا، دون أن نضع المتعلم تحت الاختبار والظروف الضاغطة التي تؤثر في تقييمه دائمًا؛ إذ لا بد أن يكون الاهتمام مع الاعتماد على التعليم الإلكتروني مع تفشي أزمة جائحة كورونا نحو تعزيز ثقافة الحوار، وتقبل الآخر، واحترام التنوع الثقافي والحضاري، والأخذ بمبادئ التطوير وتعزيزها، ودراسة الأبعاد والآثار الجانبية الإنسانية لأي قرار تعليمي يعتمد.
إن أنسنة التعليم عن بعد تستهدف إشعار المعلمين والمتعلمين على حد سواء بأهمية وجودهم في هذا العالم، والإيمان والوعي الكامل بدورهم المركزي والمحوري في عملية التعليم، بتعزيز مهارات التفكير الإبداعي والتفكير الناقد، وتحويل عملية التعلم إلى معانٍ محسوسة تكبر وتنمو بصورة ديناميكية مشبعة بألوان القيم التربوية والجمالية التي نفتقدها في التطبيق العملي لمصطلح التعليم عن بعد.
ختامًا نود الإشارة إلى أن تمكين الأنسنة في التعليم عن بعد بأشكاله المختلفة -وعلى رأسها التعليم الإلكتروني- يسهم في تحقيق مبادئ العدل والمساواة بين عناصر العملية التعليمية ككل، وفي محاسبتهم على واجباتهم، بل تستهدف بناء بيئة التعلم الخالية من العنف والقسوة والتنمر الإلكتروني، وتشجع على فهم حقيقة العمل الجماعي، وتوجه المتعلمين ذاتيًّا نحو التعلم المبني على قاعدة الحرية في تقرير ما يريد أن يتعلمه، واختيار آلية التقويم التي تناسبه، وكل ذلك يدعم توجهاتنا مربين وأولياء أمور نحو إعداد طلبتنا نحو مستقبل أفضل، مستقبل يبنى على شخصيات مستقلة، قادرة على الفهم والتفكير والنقد البناء والتحليل المنطقي، شخصيات تنظر إلى المشكلات الحالية على أنها تحديات يجب تجاوزها لا عقبات يجب التعايش معها.