اتصفت الشريعة الإسلامية العظيمة بالشمولية، ما جعلها قادرة على مواكبة كل الأحداث، وأن يكون لها بصمة جديرة بالاقتداء بها، فوضعت الأسس والمبادئ التي تسير عليها، وترسم بها الطريق للآخرين.
وقد حظيت الانتخابات اهتمامًا كبيرًا في السياسة الشرعية، وقدمت أروع النماذج التي لا يزال التاريخ الإسلامي يشهد بها، وبذلك سبقت الغرب وكل من يتغنى بالديمقراطية المعاصرة، في معرفتها وتطبيقها، ولأهمية الانتخابات في الوقت المعاصر والحاجة لها؛ تعيد صحيفة "فلسطين" للأذهان الممارسة الشرعية لها ومدى أهميتها وما يترتب على تركها.
نماذج مشرقة
قدم الإسلام النموذج الراقي المُتكامل في مفهوم الانتخابات بممارسته على أرض الواقع إذ ثبتت خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بالاختيار، وكذلك الانتخاب من أهل الحل والعقد، وبعدها أجمع الصحابة (رضوان الله عليهم) على مبايعته.
ففي السقيفة قال عمر بن الخطاب لأبي بكر (رضي الله عنهما): "ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ"، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعهُ، وَبَايَعَهُ المُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأَنْصَارُ.
وفي اليوم التالي كانت البيعة العامة إذ جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: "... إن الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه"، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
وهذه البيعة كانت ترتكز على عنصر الكفاءة في تولية الشخص المناسب بالمكان المناسب بإجراء الانتخابات المتمثلة في البيعة، وهذا الذي يؤكده عميد كلية الدعوة الإسلامية د. شكري الطويل، مبينًا أن كل من يتولى الاهتمام بشؤون المسلمين لا بد أن يتصف بالكفاءة لهذه المسؤولية، ويقصد بها أن يتحلى بالصفات التي تؤهله لهذا المنصب من الخبرات العلمية والعملية، وبذلك يوضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.
وهذا النهج الذي اتخذته الشريعة الإسلامية في عملية الانتخابات، يقول د. الطويل في حديثه مع صحيفة "فلسطين": "الانتخابات كل أشكالها وأنواعها رئاسية، أو تشريعية، أو غيرهما، إنها في ميزان الشريعة الإسلامية وجه من وجوه اختيار الكفاءة والأمانة لكل من يقوم على تولية شؤون الناس".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) في ذلك: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ".
القوة والأمانة
والمتأمل في القرآن الكريم يجد الصفات الرئيسة التي يجب أن تتوافر في كل مُترشح في الانتخابات أن يتصف بالقوة والأمانة، لقوله (تعالى) في قصة موسى (عليه الصلاة والسلام): "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ"، يوضح د. الطويل مستشهدًا بهذه الآية الكريمة أنه يجب على من يتصدر لشؤون الناس، ويتولى عليهم أن يتصف بالأمانة والقوة.
وعن سؤال ما المقصود بالأمانة والقوة؟ يُجيبُ قائلًا: "أن يكون لديه مخافة الله (تعالى)، بحيث يكون أمينًا عفيفًا متعففًا لا يقصد من هذا الترشح منافع خاصة أو منافع تخص حزبًا معينًا أو عائلة معينة، وأن يتعفف عن أموال الناس والمال العام، بحيث يحفظ حقوق الآخرين".
وأما القوة فيوضح أن الشخص المترشح يجب أن يتحلى بعنصر الكفاءة التي تؤهله لتولية هذا المنصب بحيث يكون لديه الخبرة والعلم والقدرة لتولية شؤون الناس.
ويتابع: "إن لم يجد المترشح نفسه أنه صاحب الكفاءة والقدرة على القيام بشؤون الناس لا يجوز أن يُرشح نفسه، ولا يجوز أن يتصدر لهذه الولاية".
ويُستدل على ذلك بقول أَبِي ذَرٍّ: "قُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمِلْنِي"، قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ فَهِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)".
وفي حال وجدت الكفاءة والقوة والأمانة وكل الشروط الواجبة لهذا المنصب لإنسان؛ عليه أن يرشح نفسه لذلك، خشية أن يأثم في حال ترك هذا الأمر لمن لا تتوافر فيهم هذه الصفات بحيث يؤدي ذلك إلى ضياع حقوق الناس وظُلمهم.
ويُستشهد على ذلك بفعل يوسف (عليه الصلاة والسلام) في قوله (تعالى): "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف:55)، وهذا الأمر يصدق على الإنسان الذي تتوافر فيه الشروط لترشيح نفسه.
البرنامج الانتخابي
وفيما يتعلق بالبرنامج الانتخابي يشدد الطويل على ضرورة أن يكون البرنامج الانتخابي للمترشح واقعيًّا ويعمل على تنفيذه إن تولى هذا الأمر؛ لأنه في حال عدم تطبيقه بتقصير منه وبإرادته سوف يأثم وينطبق عليه قول رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثَةٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ"، لكن في حال كان الأمر خارج إرادته والعقبات أمامه كبيرة، مثل: الحصار، ومحالات الإفشال المتوالية؛ إن شاء الله تعالى لا يأثم لعدم التقصير بذلك.
شهداء لله (تعالى)
وتقع على المواطنين مسؤولية كبيرة في عملية الانتخابات، يقول الطويل: "المواطنون الذين ينتخبون المرشحين ينبغي أن يكونوا أمناء وشهداء لله (سبحانه وتعالى)، بحيث يكون الاختيار لهم بما علم عنهم من القوة العلمية والخبرة والأمانة والأخلاق الطيبة والتثبيت من صلاحيتهم ودينهم، والقدرة على القيام بشؤون الناس".
وعمّن لم يقدم على الانتخابات يقول: "الانتخابات فرع من فروع الشهادة لله (تبارك وتعالى)، وعلى الناس أن يؤدوها، ولا يجوز أن يستنكف عنها؛ فمطلوب من المسلم أن يكون إيجابيًّا خشية أن يقع في الإثم في حال صمت وترك المجال لفوز من لا يتصف بالكفاءة".
وهذه رسالة لكل إنسان كرمه الله (تعالى)، وجعل له الحق في التأثير في اتخاذ القرار، وهذا الحق من الحقوق العظيمة التي ينبغي أن يحافظ عليها المسلم بحق الانتخاب، وحق الترشح لمن اتصف بالكفاءة.