منذ تقارب مصر مع (إسرائيل) برعاية أمريكية وسذاجة مصرية في عهد السادات يردد حكام مصر بأن الاعتراف بـ(إسرائيل) يضمن السلام لمصر والازدهار، ويفتح الباب للتعاون مع (إسرائيل) لمصلحة المنطقة.
وفي تلك الأثناء تحدث شمعون بيريز حتى يعزز هذه الوعود والدجل على الشعب المصري عن شرق أوسط جديد بطلاه بيجن والسادات، ولذلك اقتسما نوبل، وكان يتعين أن تعطى كلها للعظيم بيجن الذي تمسك بالمشروع الصهيوني واستدرج أنور السادات إلى حتف مصر والأمة العربية.
أين السلام؟! وكيف فهمه السادات؟! وأين ازدهار مصر؟! أفلا يعلم في قبره أنه مكن للمشروع الصهيوني؟! وألا يعلم أن المخابرات الأمريكية والموساد تخلصا منه بيد التيار الإسلامي المعارض للخطوة الساذجة؟!
ثم مد السادات خدماته فاستدرج الفلسطينيين إلى أوسلو، وهي المحطة الثانية بعد كامب ديفيد لتمدد المشروع الصهيوني، والغريب أن السادات كره عرفات لأنه لم يمكن السادات وقتها من تسريع المشروع، وانتهى عرفات آسفًا أنه كان ضحية الغفلة وضعف الخيارات على عكس السادات.
ولذلك أنصح الفلسطينيين بأن يلغوا أوسلو دون أن يمسوا وطنية عرفات، تلك الوطنية التي جاسرت (إسرائيل) على التخلص منه بسببها.
وكامب ديفيد وأوسلو كانتا ضروريتين للملك حسين لكي يبرم وادي عربة، وصار السادات وعرفات وحسين أمام محكمة التاريخ بعد هذه المآسي التي تسببت في موجة جديدة من المطبعين.
والموجة الأولى شملت مصر قلب الأمة التي تركت صغارها للسرطان الصهيوني، ثم فلسطين عرفات بأوسلو، وحسين بوادي عربة، كانت شخصيات أطرافًا في الصراع مع (إسرائيل) ومشتبكين معها، وهي محتلة أراضيهم، ولم يفلت من هذه المصيدة إلا حافظ الأسد.
الموجة الثانية ضمت الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وهذه الدول لم تحتك بـ(إسرائيل)، ولم تحتل (إسرائيل) أراضيها، وإنما تبرعت بالاعتراف وتحمست للتطبيع مقابل أثمان تقاضوها، وكلها في الموجة القديمة والجديدة كان المقابل للحاكم وليس للوطن.
وكان أحدثها المغرب الذي حصل على اعتراف أمريكي غير شرعي بالصحراء ملكًا للمغرب، وهو ما احتج عليه الأمين العام للأمم المتحدة تمامًا مثلما أقطع ترامب الجولان والقدس انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن، فكأن ترامب منح المطبعين أموالًا مسروقة حصلها بالبلطجة العلنية، وحصل منهم على دعمهم لنظمهم والإضرار بأوطانهم ومصداقيتهم.
وقد صرح وزير خارجية المغرب عقب الاعتراف بـ(إسرائيل) أن بلاده تريد أن تجلب بالاعتراف السلام في فلسطين والمنطقة، ولن تفرط في حقوق الفلسطينيين، وهذه خدعة كبرى وتدليس على الشعوب العربية؛ فلا يزال تدليس الحكام واستبقارهم الشعوب مستمرين، بعد أن سقطت أكذوبة الظافر والقاهر والجيش المظفر الذي دخل (تل أبيب) في حين كانت القاهرة على مرمى حجر من عمليات جيش الاحتلال الإسرائيلي في سيناء.
ويومها أعلن هيكل بفخر أن (إسرائيل) لم تجرؤ على دخول القاهرة لسببين: الأول أن الأسد يربض بالقاهرة (يقصد عبد الناصر)، وأنه ينقض عليهم، والثاني أن كثافة السكان ستبتلع الغزاة، وكله دجل وتخاريف هيكلية شبعنا منها.
واليوم يتغنى المطبعون الجدد بالسلام والخير للجميع عبر الاعتراف بـ(إسرائيل)، فكيف فهم هؤلاء معنى السلام؟! تفهم (إسرائيل) معنى السلام أنه الحالة التي بها تحقق كامل أهداف المشروع الصهيوني، وتضمن الازدهار لليهود والهيمنة على كل فلسطين، ووضع أهلها في المقابر؛ فيتمتع اليهود بالسلام ويتمتع الضحايا بسلام الأموات والمقابر.
وأعجب لهؤلاء المطبعين الذين يتحدثون عن السلام ومصلحة فلسطين وهم يعترفون بصفقة القرن التي تسلم كل فلسطين وفيها القدس والأقصى لليهود؛ فأي سلام يؤدي إليه هذا الاعتراف سوى سلام (إسرائيل) ومصالحها واستقرارها في كل فلسطين؟!
قلت ذلك في مقال سابق إنه من قبيل الخداع والانحطاط أن يزعم المطبعون أنه يمكن الجمع بين اعترافهم بـ(إسرائيل) وفلسطين معًا عندما تكون اللحظة هي الخيار بين فلسطين للعرب أم لليهود؟ بعد أن استبعد اليهود إمكانية تقسيم فلسطين وأن تتسع لكليهما.
لقد وافق اليهود خطوة تكتيكية على التقسيم لأنه مقدمة ضرورية لخداع العالم سيرًا نحو المشروع الصهيوني في طبعته الأصلية، فلما هزم العرب واستيأسوا راحوا يعترفون بقرار التقسيم، وكانت (إسرائيل) قد تجاوزت هذه المحطة بأميال؛ فظل العرب يلهثون وراء ألاعيب (إسرائيل).
والمطبعون يرتكبون عدة جرائم سياسية ودينية:
الأولى: أنهم ناصروا القاتل والمغتصب ضد القتيل.
والثانية: أنهم يعلمون أنهم يعترفون بـ(إسرائيل) في كل فلسطين، ويعترفون بأنهم يجب أن يتخلصوا من عروبتهم.
والثالثة: أنهم يسلمون الأقصى والقدس لـ(إسرائيل) ويتخلون عن القدس والأقصى، وهو أمر لا يرضاه الله ورسوله.
والرابعة: أنهم ارتكبوا جريمة انتهاك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
والخامسة: أنهم خالفوا قرارات مجلس التعاون والجامعة العربية.
الجريمة السادسة أخلاقية وانتهازية، لأن الاعتراف يخدم الحاكم ويضر الوطن.
الجريمة السابعة: أن اعترافهم هدفه الأساسي مناصرة أعداء الأمة ضد فلسطين عضو الأمة، يأسًا من أن ينالوا من جبروت (إسرائيل)، لدفع الفلسطينيين إلى اليأس والتسليم، وهم يغتنمون المنطقة كاملة.
الجريمة الثامنة: التدخل في شؤون الفلسطينيين وإضعافهم لمصلحة (إسرائيل)، لأن هذه الدول تستطيع أن تعترف بـ(إسرائيل) دون أن تتعمد الإضرار بفلسطين.
الجريمة التاسعة: الموقف العدائي للمطبعين ضد مقاومة (إسرائيل)، وإنفاق أموال العرب لدعم عدو الأمة وخذلان الضحية.
الجريمة العاشرة: أن موقف هذه الدول يعطي (إسرائيل) والمستوطنين ضوءًا أخضر للانقضاض على الفلسطينيين.
الجريمة الحادية عشرة: إحداث حرب أهلية عربية إذ ينقسم العرب بين المطبعين والقابضين على عروبتهم ضد السرطان الصهيوني، لأن المطبعين القدامى والجدد ستة: مصر والأردن والإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
أما منظمة التحرير فهي لم تطبع، وإنما دخلت في تجربة مريرة على قاعدة أوسلو، وقد لعبت مصر دورًا أساسيًّا في الترويج للتطبيع، علمًا أن اتساع الاختراق الإسرائيلي للعرب أكبر كارثة لمصر، لعل حكامها يدركون الفرق بين العمل من أجل مصالح النظام وتناقضها مع مصالح الوطن.
ولو كان المطبعون يقصدون ما يقولون أنهم بالاعتراف يخدمون فلسطين ويجلبون السلام والاستقرار والازدهار لعموم المنطقة، ويرضون الولايات المتحدة، ويشجعون (إسرائيل) على التعاون والتخفيف عن الفلسطينيين؛ لو صح قولهم لاشترطوا على (إسرائيل) شروط المبادرة العربية للسلام، ولكنهم يعينون (إسرائيل) على الحياة ويهدون الموت للفلسطينيين.