فلسطين أون لاين

"فاكهة الشتاء" الحمراء.. سفيرة غزِّيَّة تتفوَّق عالميًّا

...
جانب من قطف الفراولة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

ممراتٌ هندسية خضراء مستقيمة بلا اعوجاج، كمن رسم خطوطًا على ورقة بيضاء؛ تلمع أغطيتها الشفافة من بعيد عند معانقتها الضوء، وما إن تقترب أكثر ترى حبات الفراولة بلونها الأحمر تختفى تحت الأوراق هربًا من الشمس، في داخل المشهد يجثو المزارع حازم المسلمي بين خطوط ترابية يزيل أوراق التوت الزائدة لفتح الطريق للشمس لملامسة الأشتال فتمنحها الدفء وتكسبها مقويات وفيتامينات، وتتفتح لتخرج النواة صغيرة تكبر شيئًا فشيئًا يتدرج لونها من الأخضر إلى تحمر.

يقطف المزارعون كل حبة بعناية وهدوء، وتتراص بجانب بعضها في صناديق معدة للتصدير، يعتنون بها كطفل حديث الولادة، يزيلون عنها الغطاء البلاستيكي الشفاف قبل إطلالة الشمس، ويغطونها قبل غروبها، يعتنون بزراعتها وريها ومحاربة الآفات والأمراض، يراقبونها طوال الوقت، لا تغفو عيونهم عن متابعتها يومًا واحدًا، مثل مريض منوم بغرفة العناية المكثفة.

في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة في أثناء مسيرك بالمركبة بين الممرات الزراعية، الغلبة هنا للخطوط الخضراء الممتلئة بالفراولة، التي تجذب اهتمام المزارعين ويسمح لهم بتصديرها، وفي باطن المنطقة ينمو "أحد أجود أنواع الفراولة على مستوى العالم" هذه الحقيقة يعرفها المزارعون جيدًا.

في المنطقة المحاذية للسياج الفاصل يفترش السكون المكان، في حين تطرب الطيور مسامعك وهي تنشدُ لحنًا وسمفونية عذبة بأصواتٍ تشدك مثل مغناطيس يجذب المعادن إليه، تشابه الحياة هنا جمال الأرياف، قبل أن تفسد أصوات طائرات الاحتلال الحربية وصوت طائرات الاستطلاع بمحركها الذي يصدر طنينًا مزعجًا كذبابة تحوم حول رأسك من كل الجهات.

لا تخفي لسعات الشمس على وجه المزارع عبد الرزاق المسلمي ملامح السعادة ابتهاجًا ببدء التصدير مع حلول موسم قطف الفراولة التي يزرعها بأرضه البالغة مساحتها خمسة دونمات (5000 متر مربع).

في حين يقف عبد الرزاق المسلمي يتأمل حبات الفراولة وهي تكبر أمام عينيه، أدخلنا في أجواء زراعتها وطرق العناية بها وأمور كثيرة عن "فاكهة الشتاء" في حديثه مع صحيفة "فلسطين": "نحرث الأرض ثم نضع الزبل ونعقمها، ونبدأ في زراعة أشتال الفراولة في سبتمبر/ أيلول من كل عام".

طفل صغير وعيون مفتوحة

"الفراولة بدها عناية زي الطفل الصغير، من أول الزراعة حتى القطف، وتضل عيونك مفتحة على أي آفة أو الخوميج (العفن) أو الضباب" كل ما قاله يزيد حذره، يتجه بنظره نحو الأغطية البلاستيكية التي أزاحها جانبًا، قائلا: "نزيح الغطاء قبل طلوع الشمس، لأنه لو تأخرت وأشرقت الشمس والأشتال تحت الغطاء فإن النايلون يعرق، وعندما تحاول إزاحته تتساقط قطرات المياه على الأوراق فيفسد الحب، ومع قرب المساء نغطيه، فعلى الرغم من أن الفراولة تعيش بالبرد وهي فاكهة شتوية، فإن الصقيع يعدم الشتلة".

منذ عام 2004 يزرع عبد الرزاق الفراولة، ويومها كان "حقا ذهبا أخضر كاسم على مسمى" قالها بضحكة طارت بذاكرته لتلك الأيام: "يومها كنا نصدر لأوروبا وكان سعر الصندوق الواحد يبلغ 70 شيقلا".

عن سر هذا التفوق للفراولة الغزية كانت إجابته ممزوجة بفخر لمع في عينيه: "ربما تحتل المرتبة الأولى على العالم من حيث الجودة، أولا لأنها تتحمل، فقد تستمر لعشرة أيام دون أن تفسد، بعكس الفراولة المزروعة في دول أخرى، كذلك العلم والخبرة لهما دور".

يعدد على أصابعه بلهجة عامية مكملا الإجابة: "أنت بتشتغل وبتحرث وبتسمد وبتعقم الأرض صح، فبتطلع الشتلة نظيفة 100% (...) بعد التعقيم يجب عدم الزراعة لمدة 15 يوماً، لكني زرعتها بعد شهر للمحافظة على الشتلة مثل الطفل الصغير".

المنخفض وتأثيره

في أرضه الواقعة أسفل تلة ترابية عالية تحيط بها من جهتين الشمالية والغربية، ما يجعل عبد الرزاق يضع يده على قلبه مع كل منخفض جوي، فالمنخفض الأخير أدى لانجراف التربة فطمر معها عدة أمتار من الفراولة، كلمات خرجت منه ممزوجة بخوف يختبئ خلف قفصه الصدري: "في المنخفض أعيش أصعب وقت، لأن أرضي تقع في منطقة صعبة، فأتابع الأرصاد الجوية عن كثب، لأعرف كمية المطر وحجمها".

يفرد ذراعيه مطلقًا ضحكة مليئة بالخوف: "لو نزلت المياه مع التربة يعني دمارا".

أثرت جائحة كورونا في المزارعين، وطال كذلك عبد الرزاق، "كورونا دمرتنا من ناحية الأسعار، صارت إرسالية كيلو الفراولة للضفة الغربية بخمسة شواقل".

ماذا يمثل لك موسم الفراولة؟ أخرجه السؤال من حالة الإحباط في تعليقه السابق على أثر "كورونا" عليه بعد أن أطلق زفرات راحة بأنفاسٍ هادئة: "لما يجي الموسم نفسيتك بترتاح، فأغلب ما ترى أمامك من زراعة وأدوية دين، بتقدر تحكي الفرحة ارتدت إلنا؟".

يضحك بلهفة: "نفسي يجي بكرة اليوم، حتى أقطف الفراولة وأصدره".

تصبح الزهرة حبة فراولة بعد 21 يومًا، يمسك إحدى الأشتال: "هاي ما أعطتنيش راح تحمل فراولة، والشتلة بتعطيك عدة مرات، بدءًا من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني حتى يونيو/ حزيران إذا اعتنيت بها".

بعد آخر الخطوط، يسند شقيقه حازم المسلمي ظهره واضعًا  قبعته الزرقاء على وجهه لتحجب لهيب الشمس حينما بدأت الساعة تقترب من الحادية عشرة صباحًا، يستمع للمذياع يطالع آخر الأخبار يترقب أي تفاصيل أخرى عن المنخفض الجوي القادم، وفي الوقت نفسه يأخذ استراحة.

علامات الإرهاق مختلطة مع المياه التي تعلو جبينه قبل أن يزيحها بيده، عائدًا لتفاصيل عمله اليوم: "جئنا إلى هنا الساعة السادسة صباحًا، وأزلنا الأوراق الزائدة لفتح تهوية لأشعة الشمس، وهذا يوفر احتياجك للأدوية ويقوي الأشتال".

ينتظر حازم الذي يعيل عائلة ولديه طفلان، موسم الفراولة بفارغ الصبر، فهي توفر مصدر دخله الوحيد، ولا يفكر بزراعة أي أنواع أخرى من المزروعات كالباذنجان والطماطم والخيار، لأنها "مش جايبة هم زراعتها" كما يقر، مضيفًا: "ورثنا زراعة الفراولة أبًا عن جد، نستمر في الطريق لأنه ممر أرزاقنا".

بقربه يواصل العامل محمد زعرب تنظيف الأشجار، قبل أن يقفز ضفدع من بين الأشتال، انتزع منه ابتسامة أخرجته من أجواء العمل معلقًا: "بتلاقي الضفادع وممكن الأفاعي.. عادي تعودنا"، ويزيد بعد أن رفع نظره إليك لتظهر لسعات الشمس على ملامحه الداكنة: "لجأت للعمل حتى نشوف حياتنا، وما نحتاج لحد، والفراولة المنفذ الوحيد لذلك".

وتبلغ مساحات الأراضي المزروعة بالتوت الأرضي (الفراولة) في قطاع غزة 2500 دونم، يبلغ إنتاج الدونم الواحد 2-3 أطنان سنويًا، بمعدل سنوي يبلغ 5-6 آلاف طن، تتركز زراعتها فقط في منطقة بيت لاهيا، ويتم تسويقها لأسواق الضفة الغربية حاليا، وكذلك تصدر لأسواق دولة الاحتلال وأوروبا، حسب إفادة المهندس الزراعي بمديرية زراعة شمال غزة محمد حمودة.

تمتاز الفراولة الغزية، تبعًا لحديث حمودة لصحيفة "فلسطين" بالجودة العالية، وتتركز زراعته داخل القطاع فقط في بلدة بيت لاهيا نظرًا لطبيعة التربة الرملية الخفيفة الصفراء فيها والتي تناسب زراعة النبتة، وكذلك قلة ملوحة المياه لكونها لا تتحمل درجة ملوحة عالية، مشيرا إلى أن أزمة جائحة كورونا أثرت في تصدير المحصول فيتم تسويقه حاليًا لأسواق الضفة، ولم يبدأ بعد تصديره لأوروبا.

المصدر / فلسطين أون لاين