بعض الباحثين والمعنيين بالشأن الفلسطيني يجادلون بأن حماس صعدت واستمدت قوتها، عندما كانت على تفاهم وتنسيق مع فتح، وعندما كانت متناغمة مع البيئة السياسية الفلسطينية “الرسمية” الحاكمة؛ ما أتاح لحماس فرصة أفضل للعمل المقاوم والانتشار في الوسط الفلسطيني.
والحقيقة أن هذه الفرضية غير صحيحة؛ إذ إن جوهر صعود حماس الشعبي والعسكري المقاوم، والقفزات النوعية التي حققتها، كان عندما كانت حماس تسير عكس التيار، وعندما كانت خارج المنظومة الرسمية، التي تقودها فتح؛ وعندما كانت حماس متحررة منها ومن قيودها وضوابطها ومعاييرها، ذلك أن حماس كانت تسعى إلى تطبيق نموذجها الإسلامي، وترفض مسار التسوية الذي بدأت منظمة التحرير وفتح تبنِّيه، وترفض خفض سقفها المقاوم تحت بيئات وشروط الآخرين.
ولهذا، رضيت حماس بأن تدفع الأثمان الباهظة للسير عكس التيار الفلسطيني “المتنفذ”، وعكس البيئات العربية والدولية، ولم تكن تبالي كثيرًا أهذا يخالف منظومات تلك البيئات أو يُفشل عملها، كما أنها لم تتكيف ولم تسْعَ للتكيّف إلا ضمن شروطها، وبما يخدم بوضوح برنامجها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كانت في الوقت نفسه تتمتع بدينامية عالية، وبقدر عالٍ من المرونة والانفتاح والثقة بالنفس، ما يجعلها مستعدة للحوار والوصول إلى قواسم عمل مشتركة، وإلى تخفيف الضرر، وإلى السعي لجر “الآخر” باتجاه معاييرها.
هذه المرحلة من الصعود هي التي تميزت بها المدة من 1987م حتى 2005م، ولذلك عندما دخلت حماس في المنظومة سنة 2006م كان دخولها صادمًا للمنظومة السياسية الرسمية الفلسطينية، بل مفاجئًا لحماس نفسها إلى حدّ ما، لأنه كان دخولًا مباشرًا من خارج المنظومة إلى قيادة المنظومة، دون التدرج في ذلك؛ ومن منظومة سياسية تعارضها وتسعى إلى إسقاطها أو إسقاط منهجها إلى منظومة تقودها، دونما تغيير في هياكلها ولا في شروط عملها وأسسه.
وقد كان فوز حماس تتويجًا لمسار صعود شعبي وعسكري قطفت ثماره بنتائج الانتخابات، غير أنها بعد قليل من تذوقها “عُسيلة” الانتصار عادت لتدفع فواتير كبيرة مرتبطة بتحديات الجمع بين السلطة والمقاومة، وخسارة الضفة الغربية، وحكم غزة تحت الحصار، في بيئة عمل منهجية من قيادة السلطة وفتح لتهميشها أو لإخراجها من “الشرعية” الفلسطينية، تكللت بحلِّ المجلس التشريعي في كانون الأول (ديسمبر) 2018م.
ولسنا في هذا المقال بصدد دراسة “الشراكة المشاكسة” التي وجدت حماس نفسها بها منذ 2006م حتى الآن؛ ومراوحتها بين محاولة تكييف المنظومة بناء على برنامج المقاومة، ومحاولة المنظومة نفسها تكييف حماس بناء على شروط برنامج التسوية ومعاييره، غير أننا سنحاول تسليط الضوء على نقطة واحدة مرتبطة بـ“الصعود”.
في البداية، لم تسعَ جماعة الإخوان المسلمين، التي خرجت حماس من رحمها، أن تكون جزءًا من منظمة التحرير، حتى بعد أن أخذت تتمتع بثقل نوعي في الوسط الشعبي والطلابي والنقابي منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وظلت على نقدها القاسي المبدئي والسياسي للمنظمة.
وكان إطلاق “الانتفاضة المباركة” في كانون الأول (ديسمبر) 1987م الذي ترافق مع انطلاقة حركة حماس قفزة نوعية للعمل الإسلامي الفلسطيني، إذ وجدت حماس نفسها مباشرة في وضع شعبي منافس لفتح، أو على الأقل الفصيل الثاني بعد فتح في الساحة الفلسطينية، وتابعت حماس إدارتها لفعاليات الانتفاضة التي تدعو لها بطريقتها، وتمكنت من فرض برنامجها دون أن تكون جزءًا من “القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة”، ورفضت حماس المشاركة في المجلس الوطني التاسع عشر (الجزائر 12-15 تشرين الآخر (نوفمبر) 1988م)، ورفضت ادعاءات عرفات إدخال أربعة أعضاء باسمها في المجلس (من أصل 445 عضوًا).
وقد تجاوزت حماس محاولات قاسية لتهميشها من فتح وأنصارها، بمحاولات التجاهل أو التشويه الإعلامي، والهجمات المنظمة على أنصارها، خصوصًا في قرى الضفة الغربية، ومعاناة شبابها داخل سجون الاحتلال (وكانت الأقسى)، إذ لم تتوقف محاولات تطويعهم وكسر إرادتهم إلا بعد “اتفاق الشرف” في أيلول (سبتمبر) 1990م.
وعندما دُعيت حماس للمشاركة في اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني العشرين، اعتذرت وقدمت شروطًا بسقوف عالية جدًّا، ليست مرتبطة فقط بالنسبة التي طالبت بها (40 من المئة إلى 50 من المئة)، وإنما أيضًا بإعادة النظر في مسارات وسياسات المنظمة نفسها، ما عدته فتح “شروطًا تعجيزية”.
وعندما دخلت قيادة فتح والمنظمة في اتفاقيات أوسلو، قادت حماس تحالفًا فلسطينيًّا من عشرة فصائل ضدّ مسار التسوية السلمية؛ وتابعت عملها العسكري غير آبهة باتهامات قيادة المنظمة وفتح لها بالسعي لإفشال حلم إنشاء الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ فكانت عمليات المقاومة التي برز فيها رموز حماس، أمثال: عماد عقل ويحيى عياش وعادل وعماد عوض الله ومحيي الدين الشريف.
واضطر “رعاة السلام” إلى عقد مؤتمر دولي لدعم مسيرة التسوية، بمشاركة الدول الكبرى والتعاون مع الدول العربية المطبِّعة، في نيسان (أبريل) 1996م، بعد عمليات الانتقام لاستشهاد عياش، ووجهت السلطة الفلسطينية ضربات قاسية لحماس في الضفة والقطاع، لم تترك فيها حجرًا على حجر، غير أن حماس المثخنة بجراحها ظلت طوال التسعينيات على مسارها العسكري والسياسي الذي اختطه، ولم تؤدِ اللقاءات مع قيادة فتح في اليمن 1990م، والخرطوم 1991م، وتونس 1992م، والخرطوم 1993م، والقاهرة 1995م إلى وصول فتح لما تريد؛ أيضًا قاطعت حماس الانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية 1996م.
من جهة أخرى مورست على قيادة حماس في الخارج ضغوط قاسية، فاعتقل رئيس مكتبها السياسي موسى أبو مرزوق على مدى عامين في الولايات المتحدة (1995-1997م)، ونجا قائدها خالد مشعل الذي خلف أبو مرزوق من محاولة اغتيال، وأغلقت مكاتب الحركة وطُردت من الأردن 1999م.
ومع فشل محادثات كامب ديفيد (تموز (يوليو) 2000م)، والتصعيد الإسرائيلي باقتحام شارون المسجد الأقصى (28 أيلول (سبتمبر) 2000م) انطلقت انتفاضة الأقصى (2000-2005م) لتشكل رافعة كبرى لحماس ولمسار المقاومة، الذي فرض نفسه فرضًا من جديد، كان نحو 400 شاب من أبناء الحركة الإسلامية (فلسطين المحتلة 1948م) قد سبقوا ترتيبات اقتحام شارون الأقصى، فاعتكفوا هناك، ثم قادوا المواجهات الفلسطينية ضدّ الاقتحام، التي فجَّرت الانتفاضة، واتّسعت اتساعًا هائلًا بعد استشهاد محمد الدرة في 30 أيلول (سبتمبر) 2000م.
حاول عرفات وقيادة السلطة في البداية التعامل مع الانتفاضة في إطار تكتيكي لتحقيق مكاسب في مسار التسوية الذي كان ما يزال قائمًا، ووصل إلى مداه بمشروع كلينتون في كانون الأول (ديسمبر) 2000م، وأعلن عرفات وقف الانتفاضة أكثر من مرة دون جدوى، أما حماس فتعاملت مع الانتفاضة في إطار إستراتيجي، واستعادت عافيتها الشعبية والجهادية بسرعة، وتولّت ريادة العمل المسلح، وأخذت القسط الأكبر بين الفصائل في العمل العسكري، خصوصًا “العمليات الاستشهادية”، وضحّت في أثناء الانتفاضة بأبرز قياداتها، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب وجمال منصور وجمال سليم وصلاح شحادة.
نجحت حماس في جر فتح إلى مربع المقاومة المسلحة، وظهر لعرفات الذي وصل إلى طريق مسدود في مسار التسوية، في إثر احتلال الصهاينة مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية (مناطق أ)، وبعد تولي ليكود بقيادة شارون قيادة الحكومة الإسرائيلية، وفي ظروف الدعم الشعبي والعربي والإسلامي الواسع للانتفاضة مصحوبًا بالتعاطف الدولي؛ أنه لا بد من الاستثمار أكثر في الانتفاضة، فدعم مسار المقاومة المسلحة، وهو ما انتهى بحصاره في مقره برام الله، وتدبير عملية اغتياله.
وخلال انتفاضة الأقصى، جرت حوارات بين فتح وحماس، خصوصًا في 2002 و2003م، غير أن حماس ظلت مُصرَّة على إيجاد البيئة الحقيقية اللازمة لإصلاح البيت الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير، ولم توقف عملها الانتفاضي إلا مؤقتًا بعد إعلان القاهرة في 17 آذار (مارس) 2005م، بناء على موافقة قيادة المنظمة وفتح على ذلك.
وهكذا، إن حماس وصلت إلى أفضل حالاتها وأَلَقها مع ذروة تضحياتها، وهي خارج المنظومة السياسية “الرسمية”، وجاءت بعد ذلك لتقطف انتصارًا سياسيًّا سنة 2006م ثمرة لجهادها، ولتسعى من وراء الدخول للمنظومة إلى وقف أو تعطيل محاولة تصفيتها، التي كانت تحدث في ذلك الوقت، وفقًا لـ“خريطة الطريق”، وإلى إعادة بناء المنظمة بناء يعيدها إلى مهمتها الأصلية في التحرير الكامل لفلسطين وإنهاء المشروع الصهيوني، ولهذا “قصة” أخرى.