لم يكن يتوقع ذلك، فقد وصل إليه تكليف مع ظهور جائحة كورونا في قطاع غزة، من إدارة التمريض بمستشفى غزة الأوروبي، بأن يكون ضمن المجموعة الأولى للعمل ومواجهة الفيروس بعدما خُصص مستشفى غزة للوبائيات، "صغيراتي الثلاثة، والداي، زوجتي، بعد عن العائلة 14 يومًا ثم حجر منزلي" أفكار وهواجس قطعها بالعودة إلى الواقع، وأن عمله بطبيعته إنساني ومساعدة الضعفاء الذين هم المرضى من أولوياته.
الحكيم علوان النجري (30 عامًا) يسكن في منطقة قيزان النجار بمدينة خان يونس، يعمل في قسم العناية المركزة بالمستشفى غزة الأوروبي منذ أكثر من أربع سنوات، متزوج ولديه ثلاث بنات ريتال وتقى ومسك.
صحيفة "فلسطين" طرقت ذاكرته ليحدثنا عن الموقف الأول الذي عاشه، وكيفية تلقيه قرار محاربة عدوه كورونا الذي يفتك بأبناء شعبه، فيسرد: "ذلك التكليف كان صعبًا؛ فقد ولّد مشاعر مختلطة لم أستطع تمييزها ما بين التفاؤل بحفظ الله ورعايته، والحزن الذي يرافق خروجي من البيت والغياب عن أهلي، خاصة أن والدتي تعاني مرضي الضغط والسكري، ووالدي مريض قلب وضغط، والخوف من أن أجلب لهما الوباء".
تفهم والديه وزوجته طبيعة عمله كان سيد الموقف، ولكن مشاعر الخوف والضغط النفسي هي التي تفرض نفسها بقوة في تلك الأوقات لتثقل من كاهل علوان الذي يقول: "ودعتهم وكأني ذاهب بلا عودة، أو ذاهب إلى مكان مجهول، وقرأت على ملامح وجوههم الحزن وعيون أضمرت البكاء وألسنتهم دعت لي بالحفظ".
"لن أنسى كيف بكت بناتي وزوجتي وقتها، فملأ الدمع عيني دون بكاء، ووالداي ودعاني كأني أفارقهما أول مرة في حياتي، والدعاء منهم قد صدح في أرجاء المكان".
ويوضح علوان أن طبيعة العمل في المجموعة الأولى كانت حجرًا مدة 14 يومًا مع المرضى، ثم قضاء مدة مماثلة محجورًا بعيدًا عن أهله، فأزال طول المدة الخوف في داخله من أن يجلب المرض لعائلته.
على أعتاب العناية المكثفة يتقدم خطوة ويتراجع أخرى، مفسرًا: "لن أنسى أول خطوة دخلت بها إلى قسم العناية حيث كانت ما بين متقدم إلى القيام بعملي الذي جئتُ إليه، والخوف من شبح كورونا".
وعندما تسلم عمله من زملائه وقعت عينه على شاشة جهاز لمتابعة العلامات الحيوية للمريض، الذي بدأت نبضات قلبه في الانخفاض ثم حدث توقف سريع للقلب دون مقدمات: "شعرت حينها بأن دخولي بات أشبه بدخول نفق لا نهاية له"، صمت ثواني: "الله لا يعيدها من أيام ولحظات".
العمل في أروقة العناية "صعب"، على صعيد متابعة الحالات المرضية المصابة بفيروس كورونا، واتباع الإجراءات الوقائية بداخلها، فقد كان علوان وزملاؤه يرتدون ملابس الوقاية بهوس، بحيث لا يدعون منفسًا لكي يتنفسوا، ويسرد: "في إحدى المرات التي نتابع فيها المرضى والدخول عندهم لكي نقدم لهم الخدمات التمريضية من علاج وتغيير وضعية النوم، وتشفيط السوائل الموجودة بالرئتين، وعمل علاج طبيعي، حتى إجراء حمام يومي لهم لكي نحافظ على نظافتهم الشخصية، بعد قرابة الساعة عند المرضى أحسست أنني أفقد الأكسجين من جسدي وبدأت أصرخ لزميلي: "أشعر أني أختنق، لا أستطيع التنفس"، وعلى وجه السرعة خرجت لأستحم وأستنشق الهواء النقي خارج العناية".
وأكثر ما كان يختنق منه وزملائه عند التعقيم برش مادة الكلور المركز، ليعانوا أعراضًا طيلة اليوم كالعطس الشديد وضيق بالتنفس وحرقة بالعينين وتهيج بالحلق والأنف؛ عاد بذلك إلى ذكريات ما قبل خمسة أشهر.
في وقت الفراغ بالعناية كان يسلي نفسه وزملاءه بتذكر أيام العمل دون كورونا، وكيف كانوا لا يعيرون اهتمامًا للملابس الواقية عند التعامل مع المرضى داخل العناية، وفي النهاية لا يمكن وصف المشاعر التي عاشها داخل السكن في العناية.
يتابع علوان: "اليوم بعد التخلي عن الكثير مما كنا نقوم به في المجموعة الأولى أصبحت تلك الأيام من الذكريات المؤلمة لي، كالملابس الواقية، فبعد الرجوع لبعض الدراسات والتجارب العالمية قلص اللبس، واقتصر على المريول الطبي المعقم والكمامة الخاصة، وغطاء للرأس والأقدام وغطاء الوجه من البلاستيك".
الخوف موجود
بعد انتهاء 14 يومًا من العمل في العناية أخذت مسحة للفيروس، وظهرت النتيجة سلبية (غير مصاب): "تلك الفرحة لا يمكن وصفها حتى اليوم".
وبعدما خرج من المستشفى كان عليه أن يعزل نفسه في بيته مدة 14 يومًا: "نزلت من السيارة، وقد أمسكت أمي بيد ابنتي تقى وزوجتي تحمل طفلتي مسك وبجوارها تلتصق ريتال، وملأت الدموع العيون، فلم يستطع أحد الاقتراب من الآخر للسلام والاحتضان، وخرج أهل الحارة كي يستقبلوني من بعيد، وكأني قد خرجت من السجن، ولكن الخوف يعتريهم من أن أكون قد حملت الفيروس لهم في إحدى حقائبي".
بعد دراسات وتجارب يوضح أن اليوم باتت الأمور سلسة، ولكن الخوف موجود، الحافظ هو الله، ويتوكل هو وزملاؤه على الله في هذا العمل، ولا يطلبون إلا أن يحفظهم وأهلهم وشعبهم من هذا الوباء.
ويتابع: "هذا الوباء الذي جعلني أقف صامتًا أمام مريض وهو يصرخ: "أنا أموت وأختنق"، ولا نستطيع أن نقدم له أكثر مما نقوم به؛ بسببه كل يوم أذهب فيه إلى العمل أشتم رائحة الموت في كل ركن من المستشفى".
ظروف كثيرة مر بها قطاع غزة، ومنها التعامل مع مصابي عدوانات الاحتلال، لكن التعامل مع المصابين كان أهون فيما يتعلق بالتعامل مع الإصابة المكشوفة بالجراحة والعمليات، والغيار الطبي، أما بكورونا فالأطقم الطبية تتعامل مع مجهول، خاصة أن آلية التعامل مع الفيروس لا تزال غير واضحة وتحت التجارب.
وعند تعامله مع المرضى هو يتعامل مع الفيروس، ويقول لزملائه دائمًا: "اعرف عدوك تستطِعْ محاربته"، بمعنى تزود بالمعرفة قدر الإمكان، وكن مع مواكبة التطورات فيما يخص العلاج أو آلية عمل الفيروس.
ويوجه رسالة لزملائه في المهنة بأن يكونوا على قدر المسؤولية أمام هذا الوباء، ويلتزموا بالإجراءات الوقائية اللازمة لحمايتهم وحماية من يحبون، وأخرى للمواطنين بألا يجعلوا أنفسهم يخوضون غمار الموت البطيء أو يجلبوه لغيرهم، وأن يلتزموا بالكمامة الطبية والتباعد الاجتماعي وغسل اليدين جيدًا، ناصحًا إياهم بالتزود بالمعرفة العلمية عن الفيروس.