فلسطين أون لاين

صاحب كلمات قتالية تقاوم الاحتلال ضيف حوار "فلسطين"

الفنان بلال الأحمد .. ابن "طرابلس" أشعل انتفاضةً بصوتٍ غلب البندقية

...
الفنان بلال الأحمد
بيروت-غزة/ يحيى اليعقوبي:

لم تكفِ زيارتان كي تخزن رئتاه رائحة غزة ونرجسها وياسمينها، ويشتم نسيم هوائها وإشراقة الشمس الخجلى في يوم تشريني بارد، ولا رائحة المطر وصوته؛ فـ"غزة مميزة حتى بمطرها"، ولم تكفِ لتخزين صوت الموج وهو يتلاطم على صخورها.

في تلك الزيارتين قبل أعوام، انتفضت الكلمات الحماسية انتفاضة الورد في أعلى السماء بعد رميه من سلة ابتهاجًا وتفاعلًا، حينما صعد الفنان بلال الأحمد على خشبة مسرح الكتيبة الخضراء لإحياء ذكرى انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية حماس، لأول مرة وقف أمام حشد لا ترى نهايته، تنطلق كلماتٌ من فمه فيزلزل المكان، كما زلزلت أنشودته "عشاق الطعن" الاحتلال؛ فقد ألهبت حماس شباب انتفاضة القدس.

من جبال "طرابلس" في لبنان دائمًا ما ينشد لحنا عذبًا لفلسطين ولقطاع غزة، المدينة المحاصرة التي اختلفت في الواقع عن صورةٍ رسمها لها في خياله، تكونت ملامحها من مشاهد الدمار التي غذى بها ذاكرته ومخيلته ما تبثه وسائل الإعلام من مآسي الحصار والعدوان، التي أغفلت الجزء الجميل من المشهد الذي لم يره إلا بعينه، فعلى الأرض كانت الصورة مختلفة، يعيد استكشاف الزيارتين، في حواره مع صحيفة "فلسطين" التي اقتطعت أربعين دقيقة من وقت انشغالاته الفنية، ربما سمعت صوته كثيرًا لكنك لم تره، هنا ستسمع صوت الحروف وصوت حبه الدفين لفلسطين.

ولادة صوت

في سن السابعة من عمره اكتشفت أمه موهبة أطفالها الثلاثة بلال وإبراهيم وخضر الأحمد، وولدت ثلاثة أصوات فنية أنار نجمها قلوب السامعين والمنصتين لعذوبة اللحن وجمال المعاني والمفردات، صاحب اللهجة اللبنانية الناعمة يقر بفضل والدته: "حينما اكتشفتني أمي أخذت بيدي لعالم الإنشاد، وطورت موهبتنا بتغذية سمعنا بأناشيد "أبي راتب" وغيره من المنشدين، ثم بدأنا نقدم احتفالات المدرسة في المناسبات والأعياد، ويوميًّا كنت أتلو القرآن صباحًا، وفي الفسحة المدرسية وبين الحصص أنشد للطلاب".

يشد موقفًا من رزنامة تلك الأيام، كمن يسحب دلوًا من عمق بئر جوفي: "كنا دائمًا ننشد بالبيت، فسمعنا في أحد الأيام أفراد من "الجماعة الإسلامية"، كان مقرهم بجوار منزلنا، فجاؤوا إلى أمي، وطلبوا أن يستفيدوا منا، وهكذا توسعت دائرة احتفالاتنا حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم".

"مع أنك لبناني الجنسية ما سر تعلقك بفلسطين؟"، كان سؤالي الثاني له كفيلًا بإطلاق ضحكته في الهواء، لم أر تفاصيلها عبر الهاتف لكن شقت ملامح وجهه: "لبناني الأصل فلسطيني الهوى"، قبل أن يدخل في تفاصيل الإجابة: "حب القضية الفلسطينية غرست أمي جذوره في قلبي منذ الطفولة، فيما بعد تركزت حفلاتنا لأجل القضية، وبدأ الحب يزيد".

"لما رأينا الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين المحتلة متشبثًا بالثوابت ومتمسكًا بها، ونرى أفعال المقاومة وشهدائها؛ فقد زاد حبنا، وأصبحنا نتعمق بالأناشيد الثورية لفلسطين، وصار حبنا لها عقيدة إيمانية وجب مناصرتها"، وقبل أن يضع النقطة الأخيرة على إجابته تنطلق من فوهته كلمات أوجز بها تعلقه: "متلما الشعب الفلسطيني بفدي فلسطين بالروح نحنا نفديها بالصوت؛ والصوت يوازي قوة السلاح أحيانًا".

"يلحظ كل متابع لك أنك ثلاثي الأبعاد بالموهبة: ملحن، ومنشد، ومعالج تسجيلات صوتية، ومن الصعب على شخص واحد أن تجتمع فيه هذه المواهب؟"، أطلق ضحكة خفيفة عبرت حديثه قبل أن يزيح الستار عن السر: "لقد من الله علي بالصوت منذ الصغر، وبعدها بدأت تطوير نفسي بأخذ دروس تطبيقية بتشجيع من الأهل والمتابعين، أما التلحين فأنا لست بملحن فهي أيضًا موهبة، أما المعالجة والهندسة الصوتية فهي علم اجتهدت به واستعنت فيه بالأستاذ الكبير (رينيه بندلي)".

في جعبته تفاصيل أخرى: "في الإنشاد أؤدي أكثر من خامة وطبقة صوتية مثلًا الجبلية والرومانسية، أما اللحن فهو موهبة اكتسبت خبرتها من الاستماع للأناشيد، فما دام عندك حب للإنشاد يكون لديك طاقة وإحساس زائدان، أستغرق يومًا وأحيانًا عشرة حتى أخرج لحن الكلمات".

قاطعته بسؤال آخر: "لك عدد من الأناشيد مع فريق نجوم غرباء، فأيٌّ منها المفضلة إلى قلبك؟"، صمت قليلًا تغلبه الحيرة: "صدقًا لكل أغنية وقع خاص في قلبي، ولها رسالة وهدف ومضمون، لذلك لن أظلم أنشودة على حساب أخرى"، ثم يستدرك بلهجة لبنانية: "إلا إذا بدي أكون عم كذب عليك، مثلًا "روح الفؤاد" التي تتحدث عن الأسرى لها وقع، وترانيم الصباح وغيرها من الأناشيد، كلها ذات مستوى واحد عندي".

"الفنان بنافس بنفسه، في كل أغنية لما تطلع اللي بسمعها بحكي: "يا الله بتعقِّد (بتعئِّد) ما في أحلى منها"، بعدين عم بعمل أغنية تانية بتطلع أحلى"، ولهذا تظهر الأعمال الفنية التي يقدمها جمالًا مختلفًا، ففي كل مرة يطل علينا بحلة جديدة.

غزة القلب والجوارح

"بماذا شعرت لحظة أن وطئت قدماك أرض غزة؟"، جمال اللحظة تزاحمت في وصفه كلماته: "لقد بقيت بضع ساعات بين الحلم واليقظة قبل لحظة الوصول إلى غزة حتى رفعت رأسي بعد السجود على أرضها الطاهرة الحبيبة، شعرت حينها أني أزور وطني وأهلي وأحبابي، خاصة أنني كنت مشتاقًا لرؤية أحباب صادقتهم عبر الهاتف وما إلى ذلك، وشرفني الله بتقبيل يد أمنا خنساء فلسطين، وثلة من القادة العظام، ودخول منزل شيخ المجاهدين أحمد ياسين (رحمه الله)".

يرسل أشواقه لغزة: "مكانها في القلب والجوارح، غزة النبض، وإنه لشرف عظيم أن الله من علي بزيارتها ورؤيتها من قريب"؛ فلا يزال صدى زيارتيه لها يدق إيقاع الشوق في قلبه: "بكل صدق رسمت صورة لغزة أنها مدمرة محبطة، مهدمة، أني سأرى خيمًا، لكن صدمت على أرض الواقع".

"غزة قريبة جدًّا من مدينة طرابلس، فقط ينقصها الجبل"، يعترف: "والله إني بشوق دائم لزيارتها من جديد".

"ماذا صدمك بغزة؟"، الإجابة جاءت سريعة محملة بالأشواق وكأنه أرسلها على جناحي صقر: "أولًا صدمني صمود الشعب الفلسطيني فيها، لو سألت سؤالًا: ماذا يجبرهم على عيش هذه الحياة: حصار، وفقر، وضيق؟!، فمع ذلك لا يفرط بذرة تراب من أرضه، يعيش مثل أي إنسان في العالم حياة عادية، يهدم منزله عدة مرات ويبنيه من جديد وكأنه ليس هناك حصار".

تطفو بقايا المشهد على حديثه بلهجة لبنانية: "رأيت شعب عايش مرتاح مش فارقة معه الدنيا، حامل كفنه على كفه، المهم عنده المقاومة".

"لم نزر أماكن كثيرة في غزة، لكن من أجمل الأماكن التي زرنا كانت ثغور المقاومة" -يشتم رائحة الموقف من صورة لجمال غزة مطبوعة بذاكرته- "لقاء المرابطين أثر فينا، أدركت حينها أن غزة بأيدٍ تحفظها".

صمت قليلًا وهو يستحضر صورة أخرى: "لم أنسَ لحظة الجموع الغفيرة في احتفالنا في ذكرى انطلاقة حركة حماس بالكتيبة الخضراء، أول مرة في حياتي أرى حشودًا لا تحصى تملأ امتداد البصر".

حوار الاطمئنان

يصف ضيفنا الفن الهادف: "هو همم تعلو وتحلق وتطير في كلماته وألحانه ومواضيعه، خاصة الأنشودة التي تتكون من كلمات قتالية فنية؛ فهي تصيب العدو في الداخل في الصميم وترعبه وتزلزل كيانه، لكن الإعلام لم يعطه حقه الكافي ونحن ندفع ضريبة الفن الجهادي، نمنع من إقامة حفلات في الشوارع ونمنع من الدخول إلى دول معينة، وطالما طال صفحاتنا "التهكير" والحذف والمضايقات، وهذا ما زاد من شحن عزيمتنا وإصرارنا على أننا فريق لا يمل ولا يقهر".

كحال مغترب عن وطنه يغني لها من بعيد، الفنان بلال دائمًا ما يرسل أشواقه لغزة بصوته وألحانه، يعد ذلك "مطلبًا جماهيريًّا"، ولا يرى أنه بعيد عن فلسطين وغزة لأنَّ الحب لا يقاس بالجغرافيا بل ما وقر في القلب، والمسافة بينهما بضع سنتيمترات عن "الميكروفون".

الفنان بلال يفرد مساحة خاصة للأسرى وذويهم، يترك تعليقه الأخير في نهاية حوارنا معه عن ذلك: "نظمت أكثر من 60-70 عملًا فنيًّا للأسرى، في ذكرى زواجهم ومناسباتهم، وقد ينتهي عمري ولا أنتهي من الأعمال المطلوبة مني للأسرى، ومهما تقدمْ وتغنِّ له فستبقى مقصرًا، انظر كيف سجنت البشرية في أزمة جائحة كورونا رغم توافر كل المقومات: إنترنت، ومال، وطعام، وشراب أولاد، فما بالك بأسير مغيب عن عائلته؟!".

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين