صباحٌ يتسللُ من خلف القضبان، محمل بشوقٍ يرافق خصلات الشمس وهي تهبط على جفون النائمين على وسادة الحرية، فيؤجج لهيب الشوق بكلمات تقربُ مسافة البعد وتعيد روح الأمل داخل القلب، تغدو الترانيم من سراديب الذاكرة لتنشد إحساسًا عذبًا يجمع على مائدة العشق "الحب والحنين"، فيه تراجع الحكايات وتسجى بسخاءٍ ليسرج نورها إلى عتمة القضبان.
تطل الترانيم إلى شباك ألم تعج في داخلها بـ"المنسيين"، تلامس كلماتها روح "المقاتلة": "صباحُ الخير يا عمري صباحُ حياءكِ الخمري .. صباح الورد والدوفلى، وكلُ عوائلِ الزهرِ .. صباح الطلةِ الأحلى.. ثمن ببهاك لا أدري.. صباح النظرةِ الكحلا.. كضوءٍ في مدى الفجر"، كلمات فيديو (كليب) نسجها الأسير سعيد ذياب من خلف قضبان الاحتلال، ونطق بها لحنًا إنشاديًّا فريق غرباء للفن الإسلامي، صدر أخيرًا يجسد مشاعر الأسير تجاه من يحب.
"صحيح أني (الكاتب) أعزب ولم يسبق لي الارتباط من قبل إلا أن هذا لا يعدم أو يلغي إمكانية الإحساس بشعور المتزوج، ومن أكرمه الله بزوجة يحبها وتحبه وتكون ملهمته في الحركات والسكنات، وقد سئلت كثيرًا: (كيف لك أن تكتب عن الحب وتتصور تجلياته النفسية وما يتركه من عذب المودة ورقة المشاعر، وأنت بلا زوجة؟)" صاحب هذه الكلمات هو الأسير ذاته سعيد ذياب خص صحيفة "فلسطين" بها محتفيًا بإطلاق أنشودة "ترانيم الصباح".
في الكواليس أصوات بكاء ذارف في قلب الكاتب: "سأقول شيئًا: صحيح أن صدق الكلمة ينبع من صدق إحساسها، وصدق الإحساس يستوجب تجربة تحياها لتنعكس في نفسك نبضًا من الهيام وفي قلمك دفقًا من الغرام، والكتابة أحيانًا تكون تعبيرًا عما نفقده لا عما نعيشه، وما تسبق إليه خيالات القلوب قبل أن يبلغنا إليه القدر المكتوب".
"يوم كتبت كلمات القصيدة كنت في حالة وجدانية ذات صباح طالعته بعيني قلبي، حال دوني ودونه عزل وجدر وسجن تقتل فينا الحياة، فاستنطقت قلمي فكانت ترانيم الصباح، استحضارًا لمن ستشاركني في دربي، وتوقًا لصبح ربما تكون فيه الصبح ذاته" يرتحل الكاتب بإحساسه بعيدًا عن عتمة السجون.
لم يجتهد الأسير سعيد في اختيار القوافي قدر الاجتهاد في صدقية وتلقائية التعبير، وسلاسة اللغة، ابتعد عن التكلف حتى لا يضيع جمال المعنى في زحمة التراكيب اللغوية، فكتب كلمات القصيدة على جلسة واحدة، ولاحقًا أضاف وعدل وحذف أبياتًا شعر أنه يجب عدم تعميمها لخصوصية معانيها، "اخترت القوافي المتقاربة حتى تخدم الأداء والصوت" يعلق.
أما أكثر المواقف التي ألهمته للكتابة فهي من الكثرة لا تحصى؛ فالأسر زاخر بالمواقف الإنسانية، لكن أصوات شهقات قلب ذلك الأسير ولدت قصيدة "روح الفؤاد"، ينبش في التفاصيل: "أخبرني زميل لي عن عتب زوجته على المنشدين، وانعدام وجود نشيد للزوجات يشد من أزرهن وصبرهن ووفائهن، وأن مكتبتنا الإنشادية قد أهملت فعلًا هذا اللون من النشيد، فعزمت أن أكتب قصيدة للزوجات أخاطب فيها روح المقاتلة التي تتوشح بالصبر، وكذلك الأنثى التي تسكن نفس هذه المقاتلة، التي يزينها الحب والإحساس وتشتاق للزوج".
ليلتها رأى في المنام أنه يكتب قصيدة اسمها "روح الفؤاد"، وعند استيقاظه استبشر خيرًا بما رأى وشعر أن معية الله سترافق هذا العمل، فكان ميلاد "روح الفؤاد".
"نظمتها ذات صبح هامسٍ أشرق في القلب ولاح، وحزمتها باقة نبض صادق عفيف الهوى بهي الوشاح، وأودعتها شفيف الأماني كطهر الندى في أريج الأقاح، وأهديتها لكل أنثى أخلصت في حبها روحًا وراحًا، وتجملت بالصبر رغم آلام دربها، رضا وانشراحًا"، يجب عليك أن تسخر كل ذهنك ومهاراتك لتستمع لتلك الأبيات بقلبك.
أجاب وهو ينفث الأسى عن جراح الأسرى، مجيبًا عن سؤال: "ما أهمية الفن في قضية الأسرى؟" بكلمات خرجت من قلب السجن: "هو الروح المتجددة والتاريخ المسموع، هو الحكاية المتفردة للشعب الموجوع، إنه أرشيف انتفاضاتنا وحكاياتها المتناقلة من جيل إلى جيل، هو الضمير النابض صدقًا وأصالة، هو دمع القدس وأنين حيفا، وجع الأرض حينما تشكو للسماء، وصوت النشيد هو اشتياق الروح للروح".
علقت عطر كلماته هنا: "رسالة النشيد حملتها منذ الطفولة، تفتحت مسامعي على أناشيد الانتفاضة الأولى، فترسخت في الوجدان، استمعت لأنين حيفا مع "أبي راتب"، وأطالع بيسان في "قطار البيادر"، وأشتم عبير الأرض مع "الروابي"، ويجذبني جمال "الشهداء والغرباء"، ويجب رفع مكانة النشيد بالكلمة الصادقة والقوية والأداء الجميل وألا تخنقه رتابة القوالب الجاهزة".
وقبل أن يطوي صفحة المقابلة ترك كلمات شكر لشركاء العمل الفني: "الشكر لفريق غرباء الذين أبدعوا في هذا العمل، فكان على أبهى حلة، وأتمنى لهم مزيدًا من الإثراء لمكتبتنا الإنشادية".
تفاعل كبير
يعقب مدير إنتاج الكليب الفني إبراهيم مسلم على العمل: "لكل أسير تلفه الجدران السوداء داخل السجون زوجة وأم وأخت، فيجسد مشاعره وأحاسيسه كلمات ورسائل يخرجها لأهله وذويه بالكتابة الأدبية والشعرية، وهذا العمل يعبر عن مشاعر الأسير تجاه من يحب زوجة أو أمًّا، تجسد الحالة العاطفية التي يعيشها بالبلاغة وانتقاء أفضل الكلمات".
هناك العديد من الأعمال الفنية، كما يقول مسلم لصحيفة "فلسطين"، منها القصائد الجهادية والروحية، والأعمال الشعرية، تتحدث عن الذكريات والثوابت والمقاومة والعودة، يضيف: "الأسير سعيد ذياب أخرج كلمات "ترانيم الصباح" من السجن من طريق المحامي، ووصلتنا، وبدأنا إنتاج العمل مع فرقة نجوم غرباء للفن الإسلامي في لبنان".
اللافت في هذا العمل أنه جمع توليفة اتحدت فيها أقطار مختلفة، فصور الفيديو بقطاع غزة وجزء منه بالضفة الغربية، والكلمات خرجت من الأسر، واللحن والصوت في لبنان، والمونتاج في السعودية.
يؤمن مسلم أنه من الواجب على المنتجين الاهتمام بالفن المتعلق بالأسرى، واحتضان إبداعاتهم لرفع المعنويات وشحذ الهمم، فخارج الأسر يتلقفون ما يخرج من السجن، "فرأينا تفاعلًا كبيرًا من الأهالي والمحبين، ونسبة المشاهدات كانت عالية لترانيم الصباح، كذلك نرى روايات وكتبًا ودواوين شعرية تعزز مكانة الأسر" يختم حديثه.

