شاهد العالم بذهول حركة أنصار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب يوم 6 يناير باقتحام مبنى (الكابيتول)، في أثناء اجتماع أعضاء الكونغرس الأمريكي للتصديق على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن، إذ لم يكن يتخيل أحد أن يشاهد مثل هذا الحدث يقع في أقدس أقداس الديمقراطية الأمريكية والحرية في العالم، والملهمة لكل الحالمين بالحكم الديمقراطي والحرية، الأمر الذي ترك ندبة سوداء قاتمة في تاريخ الديمقراطية الأمريكية لن ينساها التاريخ.
تأسست الولايات المتحدة في يوليو 1776م بعد الانتصار في حرب الاستقلال ضد المملكة البريطانية، ثم اعتُمد الدستور الأمريكي الحالي في سبتمبر عام 1787، وصُدِّق عليه في العام التالي، كما صُدِّق على وثيقة الحقوق في عام 1791، وتضم عشرة تعديلات دستورية لتضمن الكثير من الحقوق المدنية الأساسية والحريات، التي لم يكن للسود نصيب منها.
إلا أن الصراعات الأيديولوجية بقيت متأصلة في المجتمع الأمريكي متعدد الأعراق والثقافات، وتظهر تجليات هذه الصراعات بين الفينة والأخرى، ولم تكن حادثة اقتحام مبنى (الكابيتول) إلا ذرًّا للرماد المُغَطى لنار الاختلاف الإيديولوجي بين طبقات الشعب الأمريكي، تلك النار التي لم تنطفئ منذ عام 1861، عندما قاد الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لينكولين جيشه في حرب لغزو الولايات الجنوبية الانفصالية، التي انتهت بتوحيد كل الولايات المتحدة بالشكل الذي نعرفه الآن، ورغم عدِّ أبرهام لينكولين من أكثر الرؤساء الأمريكيين تأثيرًا وقوةً في التاريخ الأمريكي، حيث وضعه في المرتبة الأولى استطلاع للرأي لأفضل الرؤساء الأمريكيين الذين تداولوا حكم الولايات المتحدة منذ عهد جورج واشنطن إلى باراك أوباما، شارك فيه 91 من مؤرخي الرؤساء الأميركيين، أُجْري عام 2017م، إلا أن نهاية لنكولن كانت مأساوية؛ إذ اغتيل في 12 فبراير 1865 على يد أحد الممثلين المسرحيين الغاضب من سياسات لينكولن الداعمة لحقوق السود.
ربما كان أكثر الأحداث السياسية تأثيرًا في المجتمع الأمريكي بعد إعلان تحرير العبيد على يد الرئيس لينكولن 1862 هي حركة الحقوق المدنية بقيادة مارثن لوثر كنج، التي أأسفر نضالها السلمي عن إلغاء الفصل العنصري رسميًّا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965م، ورغم مرور أكثر من نصف قرن على إلغاء نظام الفصل العنصري فإن الصراعات الأيديولوجية والعرقية والثقافية في المجتمع الأمريكي لم تنتهِ، وظهرت مرة أخرى في عهد الرئيس ترامب الذي كرس في ولايته نظرة الرجل الأبيض في حكم الولايات المتحدة، وكان أبرز تجليات هذه النظرة حادثة اغتيال جورج فلويد في مايو 2020م، التي أشعلت ما يشبه انتفاضة شعبية للسود في أمريكا، حيث لم يخفِ ترامب ميله لتمييز الجنس الأبيض، وبدلًا من إظهار الاحترام لكل شرائح وأعراق الشعب الأمريكي، فضل ترامب آنذاك اتهام وسائل إعلام بمحاولة توظيف الأزمة سياسيًّا واتهم اليساريين بافتعال الأزمة.
بالعودة لاقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي والصدمة التي أحدثها في وجدان عشاق الديمقراطية الأمريكية، فلا يتوهم أحد أن المسألة انتهت بالسيطرة على الجموع المقتحمة وفض التظاهرة، ولكنني أعتقد أن مثل هذه الأحداث سنشهدها في أثناء ولاية بايدن التي لن تشهد الاستقرار والهدوء المعهود في عمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، حيث أسست ولاية ترامب لحالة من الاستقطاب الحاد بين الأمريكيين، سيكون له تأثيره الممتد في السياسة الأمريكية في الأعوام القادمة، فلن يغفر غلاة الجمهوريين للديمقراطيين ما فعلوه في أثناء ولاية ترامب وما صدّروه له من أزمات وعقبات في أثناء ولايته، بدءًا من إشعال فتيل التحقيقات مع أركان إدارته في ملف الانتخابات بعد أسابيع قليلة من فوزه ومرورًا بنشر فضائح شخصية له ولبعض أعضاء فريقه الرئاسي، وليس انتهاء بالمحاكمة البرلمانية الفاشلة التي أعدها له الديمقراطيون في يناير من العام الماضي 2020م، التي ينادي العديد منهم بعقد واحدة أخرى له في الأيام القليلة المتبقية له في الحكم، كل تلك الأزمات والعقبات التي وضعها الديمقراطيون أمام ترامب ولّدت لدى الجمهوريين حالة من الشعور بالمهانة تدفعهم للتصرف على نحو انتقامي، والتمرد على القوانين والأنظمة التي استخدمها الديمقراطيون ببراعة، هذه القوانين المتمثلة بالكونغرس الذي يمثل بأعضائه ومبناه واحة الديمقراطية الأمريكية التي لفظت ترامب ولم تقبل به رئيسًا لولاية ثانية، فكان الاقتحام للكابيتول بتشجيع من ترامب نفسه في محاولة اللحظة الأخيرة لإفشال التصديق على نتائج الانتخابات، إلا أن الخطوة لم تنجح ولكنها ولّدت حالة من عدم اليقين باستقرار الحالة السياسية الأمريكية في ولاية بايدن، ذلك أن الجمهوريين سيحاولون جاهدين للتصرف بالطريقة نفسها التي تصرف بها الديمقراطيون في أثناء ولاية ترامب، وسيبدأ الجمهوريون بوضع العقبات واصطناع الأزمات في طريق إدارة بايدن، التي كانت بوادرها في عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، ثم التلكؤ في نقل الصلاحيات وإعلان ترامب عدم حضوره حفل تنصيب بايدن.
كل ما سبق يوحي بأن الديمقراطية الأمريكية على المحك في السنوات الأربع القادمة، وإذا فشل بايدن بإعادة الديمقراطية الأمريكية لمسارها الطبيعي فربما تجد مقالات الكاتب الروسي نازاروف عن تفكك الولايات المتحدة الأمريكية لها وجه من الحقيقة في السنوات المقبلة.