فلسطين أون لاين

أيقونة "الحجر والمقلاع" في ضيافة "فلسطين" قبل أسره بيوم

شيخ "الجبل" .. الاحتلال لن يمحو صورة "البطل"

...
شيخل "الجبل" سعيد عرمة
رام الله المحتلة-غزة/ يحيى اليعقوبي:

عقالٌ وعباءةٌ مغروسة بأصالة الأجداد ومقلاعٌ وحجر يحمل وجع الأرض؛ وقسماتُ وجهٍ غاضبٍ تتجمع شرارته وتنتفض الثورة داخل أحداقه، في كل تجعيدة من وجهه صبر، وصمود، وتحدٍّ، يقذفُ حجرًا كصاروخ جهنمي ينهال على غطرسة جنود الاحتلال.

ست ساعات من المواجهة لم تكف يد الرجل الذي يكنى "أبا العبد" عن رمي الحجارة، الوسيلة الوحيدة التي أطفأت نيران غضبه، حتى تقطعت أنفاسه كحبل وصلته النار، ولسعت الشمس وجهه القمحي.

 على قمة الجبل تقابلت العينان لحظة، وعين "شيخ الجبل" سعيد عرمة (51 عامًا) ترسلُ هذا البيت مع كل حجر قذفه المقلاع: "خذوا ما شئتم من صورٍ كي تعرفوا .. أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء".

أعلى قمة جبل بلدة دير "جرير" قضاء رام الله، دارت المواجهة بين شبان وجنود الاحتلال؛ على ميزان القياس هي غير متكافئة بين جنود مدججين بالسلاح تحميهم  طائرات حربية دون طيار، وشبان لا يملكون إلا حجارة يعبرون بها عن غضبهم ورفضهم إنشاء بؤرة استيطانية جديدة.

العم سعيد قاد المواجهة وتقدم صفوف الشباب وأوقد فيهم شعلة ثورة رافقته طيلة مراحل النضال التي واجه فيها الاحتلال منذ ريعان شبابه، لم يفصله عن الجنود سوى مسافة أمتار احتمى فيها خلف لوح (زينجو) أسنده شابان، مشهد وثقته عدسات الكاميرات وتفاعل معه الرأي العام، ولدت صورة "بطل" ورمز جديد أيقونة للثورة الفلسطينية، هذه المعضلة التي يواجهها الاحتلال وطالما حاول محوها بالأسر كما فعل معه.

السن ليست مقياسًا في الرفض

"الجميع شاهد صورتك وأنت تضرب بالمقلاع، لكن نود منك إزاحة كواليس لم توثقها عدسة الكاميرا؟" بهذا السؤال افتتحت صحيفة "فلسطين" حديثها معه قبل أسره بيوم واحد، كان الصوت القادم عبر الهاتف أشبه بجبل ينطق فاستحق لقب "شيخ الجبل": "وضع الاحتلال بؤرة استيطانية جديد منذ أسبوعين على أراضي البلدة، فذهبنا الساعة العاشرة صباحًا يوم الجمعة (1 كانون الآخر (يناير) 2021م) لمواجهة ذلك (...) الجميع استغرب كيف رجل مسن –بنظرهم– يتقدم الصفوف؟!، وأقول: السن ليست مقياسًا في الدفاع عن القضية؛ فجميعنا يجب أن نتصدى للاحتلال ونرفض إجراءاته".

يزيح الستار عن كواليس المشهد البطولي، بلهجة  عامية: "كنا على نقطة تماس، وهجموا الجنود علينا وبلشوا يرموا قنابل ورصاص مطاطي وغاز مسيل للدموع، ورصاص حي، وبعتوا طيارات مسيرة".

"أنت كبير بالسن ويعطيكم العافية على الدور اللي قدمتوه" تجاهل العم "أبو العبد" نداءات الشباب التي نصحته بالتراجع خوفًا عليه من بطش جنود الاحتلال، كسرت ابتسامة عابرة مرارة التفاصيل وقسوة المشهد: "رفضت ذلك وبقيت منذ اللحظة الأولى للمواجهة حتى آخر دقائق مدة ست ساعات، أتنقل بين عدة نقاط احتكاك على قمة الجبل، أمامك جبهة مفتوحة والأرض وعرة، ورصاص يتقاذف مثل المطر".

"ألم تخش أن يطلقوا الرصاص عليك؟"، صمت وابتسم مؤيدًا مبدأ عاش عليه "لا يوجد تضحية بلا ثمن"، وتطير منه ضحكة: "الحمد لله، بعتبر حالي شباب".

عودة لأصل "القصة وفصلها": تبلغ مساحة "دير جرير" 33 ألف دونم، صادر الاحتلال منذ سنة 1967م أكثر من نصف مساحة البلدة، يقول العم سعيد: "إن الاحتلال بنى مستوطنات وشق شوارع التفافية، ويستقوي كل يوم على البلدة أكثر فأكثر، لكننا مصرون على إزالة البؤرة الاستيطانية الجديدة لمنع الاحتلال من التمدد ومصادرة الأرض".

مراحل ثورية عديدة مرت بها حياة "شيخ الجبل" أو كما يلقبه الشباب هناك "شيخ الشرفة"، وهو اسم المنطقة التي دارت فيها المواجهة، ووثقت صورته عدسة الكاميرات، التي لم توثق تاريخه الحافل في المقاومة والنضال، الذي سطره منذ أكثر من 33 عامًا، حمل الحجر معه بدءًا من الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ثم رافقه في انتفاضة الأقصى، وجميع المواجهات والهبات كان حاضرًا معه.

يقنص مشهدًا من أيام الانتفاضة لم يبرح ذاكرته: "في البداية كانت المواجهات خطرة جدًّا، فأنت تذهب وتتصدى لسيارات المستوطنين وتمنعهم من الدخول إلى أرضك، ثم تقابل بإطلاق النار عليك، وتدور المواجهة الخطرة، وأحيانًا نتفاجأ بكمين لجنود جيش الاحتلال وكأنك تسير في طريق قريب من موتك".

ارتباط وتجذر

عليك أن تسخر كل آذانك للاستماع إلى شموخ الجبل فيه وأصالة التراث متمسكًا بلباسه: "في كل مواجهة أرتدي العقال والعباءة، فهذا تراث نتمسك ونتزين به، ومنذ مدة طويلة أرتدي الملابس التراثية الفلسطينية ولستُ على استعدادٍ لارتداء غيرها، فلا أرى الجمال إلا بها، ورسالتي: هذا تراث يجب أن نستذكره ويظل حاضرًا ليروي أصالتنا وشموخ عزتنا وإرثنا المشرف".

"مقارعة الاحتلال ضرورة وواجب وطني كبير، من لديه الإمكانية الجسدية من كبار السن عليه التقدم للتصدي" هذه ليست نظرية فلسفية من وحي وجدان الحاج سعيد، بل مبدأ يجب أن يغرس في كل ما هو فلسطيني دون الاكتراث للسن، فـ"المرحلة خطرة، مطلوب فيها نفس كل واحد".

تشعر بروح البطولة تخرج مع تنهيدته: "على امتداد الثورة الحجر كان يردع، هذا ما هو موجود وما نستطيع فعله، لكني أدركت أن الحجر يخيف جنود الاحتلال كثيرًا (...) منذ الانتفاضة الأولى المقلاع والحجر سلاحي".

صمت قليلًا وهو يستحضر صورته آنذاك: "ما إن عدت للبيت حتى فوجئت بحجم انتشارها، لكن المشاركة كانت عفوية، وعلى أي حال الحمد لله الإنسان يكون سعيدًا أن الموقف وثِّق وأنت تدافع عن حقك وأرضك وعرضك: هذا شيء تعتز النفس به".

"شيء أكبر من اللي أنا قدمته" قالها بتواضع.

تجمع الغضب في حروفه وانطلقت من فوهته مثل رصاصة تغادر البندقية: "دارت المواجهة في منطقة مفتوحة، والاحتلال كثف إطلاق الرصاص، أصيب لحظتها قرابة خمسين شابًّا أغلبهم في الرأس، حتى اقتربت ساعة المغرب أرسل طائراته التي أمطرتنا بقنابل الغاز لتفريق الشباب".

يحرك المشهد: "بقيت ثابتًا في موقعي لأني لا أستطيع التحرك مثل الشباب، استنشقت غازًا كثيرًا وغادرنا المنطقة".

بلهجة تراثية على رأي الحاج سعيد "ما في مفصل على أخوه" بهذه الحالة عاد إلى بيته: "يا ابني، بالنسبة لشيخ خمسيني مش قليل هدا، لكن شعرت بالراحة وكل شيء يهون لأجل عيون فلسطين، وسأبقى أواصل كل جمعة لأننا أخذنا عهدًا على عدم التراجع حتى إزالة البؤرة".

 لكن يبدو أن جيش الاحتلال لم ترقه صورة "البطل" التي سطرها سعيد وباتت منارة يهتدي إلى نورها الشباب الثائرون، فأسره صباح الجمعة وحجبه عن المشهد، لكن ما غرسه "أبو العبد" متجذر في قلوب الشباب تجذر الزيتون بالأرض، لا يمكن اقتلاعه أو محوه.