فلسطين أون لاين

تريد أن تعيش طفولتها المسروقة معه من جديد

في العناق الأول بعد 19 سنة "لينا بكيرات" تسترد والدها من عتمة السجون

...
لينا بكيرات تعانق والدها لأول مرة خارج السجن منذ 19 عاما



مرَّ مساءٌ دامسٌ على قلبها؛ كانت نبضاتُ قلبها تخفقُ بشوقٍ وهي تقضمُ أشلاء الثواني على حافة الانتظار، وحنين بدأ يمزق عباءة الشوق لهذه اللحظة، تحمل معها تسعة عشر عامًا لم تر فيها والدها مالك بكيرات (41 عامًا)، لم تخزن رئتاها رائحته، ولا طبعت صورته في ذاكرتها؛ فقدت استيقظت على الدنيا وهو مغيبٌ عنها خلف قضبان الاحتلال الإسرائيلي التي نهشت عمره وأكلت ملامحه.

في تلك الليلة وقفت ابنته لينا (18 عامًا) على ضفة الحنين، لم تستطع إغلاق عينيها المسدولتين بستار النعاس، تصطاد مواقفها معه خلال زيارته في السجن، تفصل قلبيهما شباكٌ حديدة أو جدار زجاجي، لكن ساعة النهاية اقتربت وتساقطت أوجاعها تلك من ذاكرتها، وأفكارها، حينما أبلجت شمس والدها من مدخل قرية صور باهر جنوب القدس المحتلة في 31 كانون الأول (ديسمبر) قبل أن تُطوى سنة 2020م في سجلات الماضي.

 جموع غفيرة استقبلت البطل المغيَّب، لينا وجدتها "أم مالك" تنتظرانه على عتبة البيت، انتظار عمره من عمر اعتقاله، مرت به كل مراحلها التي سرقت منها طفولتها.

تقف أمامه طفلة بجسد فتاة شابة تناهز ثمانية عشرة عامًا، تخطت كل المتجمعين حول والدها، في قرارة نفسها كأنها تقول: "أنا الأحق بأول عناق!"، ثم رمت رأسها على صدره تسمع دقات قلبه ومسافة طويلة من شوقه لها تنساب منها الدموع بخفة، لكنها لم تدم طويلًا مثل زيارتها له في سجون الاحتلال، فقد كان الجمع غفيرًا، تلاشى معه مشهد العناق، كانت تحتاج إلى مدة أكبر، لأن يتركها الجميع حتى تستمد حنانًا طويلًا حرمت منه.

"ساعة النهاية"

عاشت لينا يومًا "تاريخيًّا"، في "الساعة الموعودة التي عَيّنّاها تدقُّ دقات أمل ورجاء، كأنها يد الحرية الحمراء تدق" على رأي أحمد شوقي، كل معاني الفرح تتزاحم في صوتها عبر الهاتف، كانت صحيفة "فلسطين" تستمع معه لصوت القهر الدفين بين ثناياه: "تشوقت للحظة احتضانه، وهي أجمل لحظة في حياتي، فقط كنت أريد رؤيته أمامي ومعانقته، وأشعر أنه سيبقى بقربي ليعوضني عن كل الأيام التي مرت مريرة علي في غيابه".

وكأن فرحتها طائر يحلق في سماء الحرية، أخيرًا زفرت كل مرارة الفراق: "الآن اكتملت حياتي بوجود أبي بقربي، تغمرني سعادة لا أستطيع التعبير عنها بالكلمات؛ فهو شعور داخلي لا يوصف".

"صراحة؛ كان بكفيني أحضنه وأتأكد أنه هو عنجد طلع، ما حكيتش ولا كلمة، لأني انتظرت هاللحظات من سنواته، لأشوفه قدامي ويعيش معي" كانت تلك أجمل لحظة مرت على لينا، تريد أن "تلتم عليه بعدما يفرغ البيت من المهنئين"، وتجلس معه وتعرف عنه الكثير، على مدخل فمها كلام تبوحه هنا: "لكوني لم أعش مع والدي من قبل تحت سقف واحد، هناك أشياء كثيرة أريد معرفتها: عاداته، وأشياء يحبها، وما يكره، أريد أن أعيش طفولتي من جديد، تلك الطفولة التي حرمني الاحتلال منها، لأنام بقربه، وأراه وأحضنه"، هذا جانب من قسوة الاحتلال الذي حرمها والدها.

تحاول إسكات الحزن الذارف بداخلها طيلة مدة بعده عنها، لكن صوت المرارة النابع من قلبها أكبر من تلك المحاولات: "غياب الأب أثر فيّ كثيرًا، مواقف كثيرة مرت كنت بحاجة لأن يكون بجانبي ويساندني فيها، مع أن جدي وجدتي حاولا تعويض الغياب، وملآ علي حياتي فرحًا وقربًا ومحبة، وأظلاني بحنانهما حتى لا أشعر بالغياب".

لكن وطأة الغياب كانت أشد، فلما سمح لها بالذهاب والتقاط صورة تذكارية معه قبل أربع سنوات داخل السجن؛ أدركت قسوة الغياب والفراق حينما اشتمت رائحة حنانه من قرب، فهذه الرائحة المميزة لم تعرفها من قبل.

"رحلة غياب"

"مرت الأيام بحلوها ومرها، ومع عودته نسترد الحياة من جديد، نعم الفراق صعب، لكن الرجوع والعودة من أجمل ما يكون، رغم محاولات الاحتلال للتنغيص علينا الفرحة وكبتها، حتى فرحة استقبال أسير غائب 19 سنة لم ترقه؛ فاعتقل والده الشيخ ناجح بكيرات (نائب المدير العام لأوقاف القدس) ثم أفرج عنه في اليوم التالي" تخرج تلك الكلمات من حنجرة والدته، وهي تنفض على الطرف الآخر من سماعة الهاتف لصحيفة "فلسطين" أسى راسيًا على قلبها منذ زمن.

- الله أكرمنا بخروجه بأجمل فرحة، كانت زفة مالك بحارتنا أحلى زفة وفرحة!

حينما كبرت لينا، وبدأت تسأل عن والدها، أخذت العائلة قرارًا أن تفهمهما كل شيءٍ على حقيقته، أن والدها موجود في سجون الاحتلال، فوعت "الحقيقة المرة".

تقلب في رزنامة أيام الأسر الأولى، بضحكة خفيفة انطلقت من صوتها: "اصطحبت لينا معي في زيارتي إلى مالك؛ بعد أسبوعين من ولادتها، لم أره سعيدًا مثل تلك اللحظة، لكن الاحتلال رفض السماح لنا بإدخالها له".

"زيارة لم تروِ شوقه"

كل ثلاثة أشهر كانت تحظى لينا بفرصة لمعانقة والدها، ويسمح لها بالدخول إليه مدة خمس دقائق، "ما كان يبل ريق شوقه إلها؛ يا دوب يبوسها ويحضنها" تعلق جدتها، لكن بعدما طرقت السادسة من عمرها منعت "لأنها أصبحت كبيرة"، تلك كان ذريعة الاحتلال لمنعها، تخرج كلمات جدتها ساخرة: "حرمت منه وهي في عز طفولتها، وفي أوج إدراكها (...)  قدم ابني طلبات كثيرة للسماح له باحتضانها، وكان الجواب هو: الرفض".

تكاد أوجاع ومتاعب الزيارة تمس أحبالها الصوتية، تطلق زفرة ألم هنا: "زيارة الأسير تعني ألا تنام الليل خوفًا من ضياع الموعد عليك، وتحضير الملابس، والتهيؤ للزيارة، ثم تسير مدة ساعتين ونصف أو ثلاث حتى تصل إلى النقب، يعني أن يذهب منك 12 ساعة لأجل خمس وأربعين دقيقة، قبلها نصطف في طابور على شباك الملابس مدة ساعة ونصف، حتى يصلك الدور كي تضع ملابس ابنك، وفقط يستقبل كل هذا الطابور جندي واحد (من جيش الاحتلال) يفتش كل الملابس، ويرجع معظمها، لأن قائمة الممنوعات في السجن بخصوص الملابس طويلة".

تضحك بتهكم ومرارة: "طيلة 19 سنة لم يرتدِ ابني ملابس صوف".

تصطاد موقفًا من أيام الزيارات لم يبرح ذاكرتها: "في 25 آذار (مارس) 2018م حينما اعترض الأسرى على وضع الاحتلال أجهزة تشويش؛ حدث قمع للأسرى، ومنهم ابني "مالك"، ووضعوهم بساحة السجن في يوم ماطر مدة سبع ساعات".

بعد شهر من الحدث سمح الاحتلال للعائلات بزيارة أبنائهم الأسرى، تتوقف أم مالك لا ترى كلماتها وهي تخرج لكنك تسمع صوت الوجع متخفيًا بين أناتها: "رفض الاحتلال إدخال 10 عائلات من الحافلة، وكنا من المرفوضين، لكننا لم نخضع لقرار الاحتلال وطلبنا من الأهالي التكاتف، وبقينا عدة ساعات ترفض العائلات الدخول لزيارة أبنائهم إلا خلفنا، وبالفعل استجاب بعد عدة ساعات، لكن لما دخلت فوجئت بعدة جروح على جبين ابني".

بعد مرور 14 سنة على  أسر مالك سمح الاحتلال لوالدته بأخذ صورة تذكارية معه، لكونها تعدت الـ50 عامًا، يومها خارت قوتها أمام شوقها رغم كل الصلابة التي حاولت إظهارها: "اعتقدت أني سأبقى قوية، أخذت الصورة مثل رعشة برق وكأنه حلم وتلاشى، فأغمي علي، وبقيت بعدها شهرًا مريضةً، فكبت الإنسان مشاعره فرحًا أو حزنًا يؤدي إلى مرضه، وهذا ما يريده الاحتلال".

أخيرًا، رأى مالك ابنته لينا التي كبرت مع سنوات حكمه لأول مرة خارج الأسر، جمعت بينهما صورة واحدة ولقاءات معدودة لم تكفِ لإطفاء أشواقه، تعكس عيناها لون عينيه، يتقاسمان الشبه والملامح، "عينان تائهتان في الألوان خضراوان قبل العشب، زرقاوان قبل الفجر"، كما قال محمود درويش.

C9QNH.jpeg
 

المصدر / فلسطين أون لاين