انتهت جولة المفاوضات في الدوحة ببيان موجز من الوسطاء الثلاثة، دون الكشف عن تفاصيل تُذكر، باستثناء التأكيد على استمرار جهود الوساطة ونقل المفاوضات إلى القاهرة بناءً على مقترح أميركي جديد. هذا المقترح يستند إلى مبادئ الرئيس بايدن، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735، الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار.
بعد مفاوضات الدوحة، نشر الأميركيون أجواء إيجابية، زاعمين قرب التوصل إلى اتفاق بعد جسر الهوّة بين إسرائيل وحركة حماس في العديد من النقاط الخلافية، دون الإفصاح عن طبيعة هذه النقاط.
من جهته، دعا مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى ممارسة الضغوط على حماس؛ لقبول مقترح 27 مايو/أيار الماضي، مشيرًا إلى أنّ تنفيذ الاتفاق لن يكون ممكنًا إلا بعد موافقة حماس. وأكد المكتب أن الوسطاء على دراية بمبادئ إسرائيل الأساسية، في إشارة واضحة إلى تمسّكه بشروطه ورفضه أي مقترحات لا تتوافق مع تلك الشروط.
في المقابل، كشفت حركة حماس ما جرى في مفاوضات الدوحة، مؤكدة أن نتنياهو ما زال مصرًا على شروطه المستحدثة على المقترحات السابقة، ومن بينها استمرار السيطرة الإسرائيلية على حدود قطاع غزة مع مصر (محور فيلادلفيا/صلاح الدين)، وإدارة معبر رفح بشكل مباشر أو غير مباشر مع مصر، ورفض الانسحاب من محور نتساريم جنوب مدينة غزة، إضافة إلى الإصرار على فرز عودة النازحين إلى شمال القطاع وفق معايير أمنية.
وأكّدت الحركة أن المقترح الأميركي الجديد يتماهى مع شروط نتنياهو، مما يعني تجاهل واشنطن للمقترحات السابقة التي وافقت عليها حركة حماس مع الوسطاء في 2 يوليو/تموز الماضي وما قبلها، والتي كانت ترتكز على رؤية الرئيس بايدن، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735.
واشنطن تمضي في المفاوضات رغم الفشل
إذا كان نتنياهو ما زال متشبثًا بشروطه التي تعني التحكم في قطاع غزة عبر إعادة انتشار جيش الاحتلال بشكل أو بآخر، فلماذا تصرُّ واشنطن على وصف هذا المسار بالإيجابي، وبأنه يحرز تقدمًا ويقترب من جسر الهوة بين الأطراف؟
للإدارة الأميركية مصلحة في استمرار المفاوضات حتى لو لم تحقق نجاحًا، فالمفاوضات في حد ذاتها حاجة أميركية لعدة أسباب، أبرزها:
أولًا: توظيف المفاوضات في الانتخابات الأميركية
تُبدي الإدارة الأميركية حرصها على إطلاق سراح الأسرى، لا سيما الأميركيين من حملة الجنسية المزدوجة، والترويج إعلاميًا بأنها تسعى لإنقاذ أرواح الفلسطينيين الأبرياء من الكارثة الإنسانية، رغم أن هذه الأرواح تُزهق بالسلاح الأميركي. وهذا يشكّل وسيلة لاسترضاء شريحة الشباب الأميركي، والعرب والمسلمين الأميركيين في الولايات المتأرجحة، الغاضبين من سياسة الرئيس بايدن؛ لدعمه إسرائيل في جرائمها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
تسعى إدارة الرئيس بايدن إلى خلق صورة إيجابية للحزب الديمقراطي؛ لخدمة المرشحة كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية. وقد أبدت هاريس مواقف إعلامية تبدو أكثر حدة من مواقف الرئيس بايدن، بدعوتها لوقف الحرب وإنقاذ المدنيين في غزة.
ثانيًا: الخشية من التصعيد والخطأ في الحسابات
ترى الإدارة الأميركية في فشل المفاوضات سببًا للتصعيد أو للحرب الإقليمية في الشرق الأوسط بين إسرائيل ومحور المقاومة. وإذا كان من السهل إشعال الحرب، فمن العسير التحكم في مساراتها ومآلاتها، وأي خطأ في حسابات التصعيد سيشكّل تهديدًا لفرص فوز المرشحة كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر/تشرين الثاني، إذ إن أي خطأ من إدارة بايدن قبيل الانتخابات ستكون له ارتدادات كبيرة على مزاج الناخب الأميركي في ظل احتدام التنافس بين هاريس والرئيس السابق دونالد ترامب.
ثالثًا: أولويات الأمن القومي الأميركي
واشنطن ترى في الصعود الصيني والتقدم الروسي في أوكرانيا، بوابة أوروبا الشرقية، تهديدًا إستراتيجيًا داهمًا، وتشكل مواجهتهما أولوية في سياساتها الخارجية؛ حفاظًا على مصالحها كقطب أوحد في السياسة الدولية. وبالتالي، فإن توقف المفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس، وإطلاق العنان للتصعيد في المنطقة، قد يُفضيان إلى حرب إقليمية، مما سيؤثر حتمًا على الإستراتيجية الأميركية؛ نتيجة الانشغال والاستنزاف في الشرق الأوسط على حساب المواجهة مع الصين وروسيا.
وترى الإدارة الأميركية في استمرار المفاوضات وسيلة لتبريد الأجواء الساخنة في المنطقة، وتأجيل ردّ إيران وحزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن، أو جعله ردًا محدودًا. أما إذا نجحت المفاوضات بين إسرائيل وحماس في تحقيق وقف لإطلاق النار في غزة، فسيشكّل ذلك فرصة لنزع فتيل التصعيد والحرب الإقليمية.
وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أن الحشد العسكري الأميركي الكبير في المنطقة بأسلحة هجومية هو لردع إيران وحزب الله ومنعهما من الرد القوي ابتداءً، وليس بنية إشعال الحرب. ولكن إذا وقعت الواقعة، فإن واشنطن ربما تجد نفسها مضطرة لخوضها مُكرهة دفاعًا عن إسرائيل.
نتنياهو بين شراء الوقت والتصعيد
تختلف الحسابات الإسرائيلية المباشرة عن حسابات الإدارة الأميركية، إذ يرى بنيامين نتنياهو في وقف إطلاق النار قبولًا تحت التهديد. فما لم يقبله سابقًا، يقبله الآن، وإسرائيل تعيش حالة من الخوف والذعر خشية الرد الإيراني وحزب الله على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وفؤاد شُكر في بيروت، ما يُعدّ هزيمة لإسرائيل وتعميقًا لانهيار ردعها.
كما أن القبول بوقف إطلاق النار قد يؤدّي إلى تفكك حكومة نتنياهو وسقوطه كزعيم فاشل، بعد أن كان يرسم لنفسه صورة الزعيم التاريخي لإسرائيل.
ومن ناحية أخرى، لم تصل الضغوط الأميركية على نتنياهو وحكومته إلى الذروة التي يمكن أن تغيّر موقفه المتعنّت، فنتنياهو يدرك أن ضغط الإدارة الأميركية ليس مطلقًا، فهي مقيدة بالانتخابات الأميركية، ما يعني أنها لا يمكن أن تتخلى عن إسرائيل أو أن تمضي بعيدًا في الضغط على نتنياهو، الذي يُحسن إدارة العلاقة مع اللوبيات الصهيونية النافذة في واشنطن، ويستثمر علاقاته القوية مع المرشح الجمهوري دونالد ترامب المنافس الشرس للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.
رغم أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ووزير الحرب يوآف غالانت، والعديد من الضباط في الجيش يرون أهمية الاتفاق مع حركة حماس لوقف إطلاق النار ولإطلاق سراح الأسرى، بعد أن وصل الجيش إلى طريق مسدود في قطاع غزة، وخشيته من تداعيات الحرب الإقليمية على إسرائيل وجيشها المنهك، فإن نتنياهو ما زال يعتقد أن استمرار الحرب قد يأتي له بالنصر المطلق، اعتمادًا على مزيد من الضغط على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، ظنًا منه أن ذلك سيؤدي مع الزمن إلى استسلام حركة حماس والمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني تحت وطأة التجويع والإبادة والتدمير المستمر.
ربما يفكّر نتنياهو في التصعيد الإقليمي ويسعى إليه عمدًا، على عكس ما تريده الإدارة الأميركية، بعد أن دفع بإيران إلى مربع المعركة عقب عملية اغتيال إسماعيل هنية في طهران، واستدعى القوات الأميركية الهجومية إلى المنطقة بإسناد من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، لا سيما قبيل الانتخابات الأميركية التي تكون فيها الإدارة الأميركية في أضعف حالاتها، ما قد يعتبره نتنياهو فرصة تاريخية لضرب طهران ومشروعها النووي بشراكة أميركية غربية، وهو الهدف الذي سعى إليه منذ سنوات.
في هذا السياق، تبدو فرصة الوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة أمرًا صعبًا ومشكوكًا فيه، إذا ما كان نتنياهو يسعى لتحقيق أهدافه الإستراتيجية ليس في غزة وحدها، بل في المنطقة بأسرها عبر سياسة الحسم مع محور المقاومة، لتحقيق ما سمّاه بعد معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بـ"حرب الاستقلال الثانية".