فلسطين أون لاين

في اللقاء الأخير طبع "قبلة الوداع" على جبينها

محدث "سارة الحواجري" .. 12 عامًا لم تضمد جرح قلب نجلها "حسين"

...
dc5d048b-a382-4572-9fee-1867a480f2eb.jpg
غزة/ يحيى اليعقوبي:

تلك الشظايا التي اخترقت جسدها وكأنّهَا عبرت قلبه قبل أن تصل قلب أمه؛ تمنى لو كان بقربها ليكون درعًا يتلقى شظايا ضربات صواريخ الطائرات الإسرائيلية، لكنها كانت وحيدةً بمفردها وهي تشاهد الموت؛ نزف دمها وتوزع على الأرض لترحل روح الحاجة سارة الحواجري ظهر السابع والعشرين  ديسمبر/ كانون أول 2008م حينما سلكت أقرب الطرق المؤدية إلى الاستشهاد بجانب مبنى "الإدارة المدنية" شرق مخيم جباليا فانهالت الصواريخ على المبنى ووصلت شظاياها إلى قلبها، وارتفعت أعمدة الدخان الأسود لتلامس الغيوم وتنشر رائحة الموت في كل مكان وصلت إليه.

اثنا عشر عامًا مرت ولم تضمد جرح قلب نجلها حسين، فقد غرس الحزن خنجره بداخله واستوطن فيه، يشتاق إلى رائحة أمه، وبريق عينيها، ووجهها الملائكي تسلعه حرقة القلب، بعد أن أفلت شمسها بلا رجوع، إلا من بوابة ذكريات يرويها  لصحيفة "فلسطين".

"صباح السبت (اليوم الأول للعدوان) كنت ضمن صفوف دورة في جهاز "الانضباط العسكري" حينها، نقوم بركض مارثوني اعتيادي في شوارع القطاع، في السماء لاحظنا حركة غريبة وكثيفة لطائرات الاحتلال بدون طيار تتمركز فوق مقر "الجوازات" بمدينة غزة، فغادرنا وتوقفنا أسفل أشجار كثيفة قرب منطقة السرايا، وبدأنا نشك بنية الاحتلال استهداف مراكز الشرطة".. هكذا بدى المشهد الأول الذي عاشه حسين، ثم أرسل عناصر الشرطة على شكل مجموعات لمقر الجوازات وجرى إخلاء معظمهم قبل الاستهداف الإسرائيلي بساعة.

قبلة الوداع

رجع إلى منزله، ليجد والده يجلس على موقد نار فاستبدل بزته الشرطية، جلس أمام شاشة التلفاز يتابع الأخبار، صوت عقارب الساعة يرن عند الحادية عشرة صباحًا، قبل أن تخرج أمه من المنزل طبع على جبينها قبلته المعتادة لشدة تعلقه بها، ولا يدري أنها قبلة الوداع، ثم خرجت من المنزل الواقع بمنطقة "عزبة عبد ربه" تجاه السوق.

تطفو بقايا المشهد على الذكريات، يخرج الحزن من أعماقه: "بالعادة لا تتوجه من طريق الإدارة المدنية، لكنها سارت منه، وقبل القصف قال لها أحد الجيران وهو يقود سيارتها: "اركبي يا أم ناصر حتى أوصلك"، لكنها فضلت أن تذهب سيرًا معتذرةً له، أخي الصغير الذي كان يرافقها، صادف أصدقاءً له فتركها وجلس معهم، وحينما اقتربت من مبنى الإدارة، وجدت فتيانًا فشعرت بالخوف عليهم وقالت لهم: "اذهبوا من هنا كي لا تصابوا بأذى، مرت لحظات أخرى على الموقف وحدث الاستهداف الذي رأيته من المنزل".

تغير لون السماء في وضح النهار، لدقائق معدودة اكتست المنطقة المستهدفة ومحيطها باللون الأسود، رايات القلق أيضا نكست أعلامها داخل قلب نجلها حسين، بريق المشد لم يخفت من ذاكرته: "كنت في المنزل، وفزعت على أصوات انفجارات متتالية، توجهت للإدارة المدنية، فوجدت جثث الشهداء وأشلاءهم متناثرة على أرضية المبنى، وخلال تواجدنا جرى استهداف الموقع مرة أخرى وسلمنا الله، في مسيري أوقفني شرطي، يخبرني أن هناك وثائق شخصية تخص عائلتي، ثم شخص آخر أخبرني أن والدتي استشهدت من شظايا الصواريخ".

بحث عن خبر صادق!

ووقف حسين مصدومًا، بحالة يرثى لها، أشفق عليه أحدهم فاضطر لإخفاء الحقيقة، مناديًا عليه: "ايش بتعمل هان، أمك بتبحث عنك بدها اياك!"، ينبش في التفاصيل: "سرتُ فعثرت على أخي الصغير وسألته: هل رأيت أمي!؟ فأخبرني أنه تركها تذهب لوحدها، ثم ذهبنا لمستشفى "العودة" نتفقد جميع المصابين فلم نجدها، فتذكرت كلام الشرطي الأول، توجهت حينها لثلاجات الموتى بمستشفى "كمال عدوان"، ورأيت امرأة وحيدة مغطاة بكفن أبيض، أزال الطبيب الغطاء عن وجهها فوجدت أمي أمامي مضرجةً بدمائها، وقتها تهاوت دموعي على وجهها، حضنتها وبكيت على صدرها".

"أيقنت أن قبلتي لها قبل خروجها من المنزل كانت قبلة الوداع الأخيرة، كنت آخر من وضعها في القبر ولم تهن علي أن أدفن أمي سبقت دموعي التي غسلت وجهها  ذرات التراب في مواراتها الثرى" .. يدغدغ الموقف مشاعره، صمت صوته آخذًا استراحة وكأنه يطوي دفتر الذكريات.

حسين الذي يسكن بجوار "جبل الكاشف" لا زالت مشاهد عدوان الاحتلال على غزة عام 2008م، حية بداخله: "احتل جيش الاحتلال منطقتنا، ودخلنا إلى منزلنا ومكث فيه 18 يومًا، كان المشهد مخيفًا، عاصرنا الحرب بكل مشاهدها المؤلمة، فقدنا أعزاءً لنا، كنا مشتتين والدتي استشهدت، بعض أخوتي ذهبوا لأقارب لنا في النصيرات، ومنهم من بقي بجباليا، والدي ظل بالمنطقة ولم يغادرها، الاحتلال حول منزلنا ثكنة عسكرية".

رجعت العائلة لمنزلها بعدما انقشاع غبار المعركة؛ وكأنها عادت إلى مكب نفايات، "بقينا أسبوعًا كاملا نحاول تنظيف المنزل خلف جنود الاحتلال الذين لم يوفروا أي جهد باستهداف المنطقة وتدمير المزارع وتجريف الأشجار، في معركة الفرقان فقدت أصدقاء أعزاء كثر لكن فقدان أمي أنساني إياهم، حتى انتهت الحرب وبدأت أقلب في صور الشهداء وتفاجأت باستشهاد 30 شابا من ضباط دورتي العسكرية، مرت اثنا عشر عاما ولا زالت رائحة ذكريات أمي حاضرة معي في حياتي اليومية، كنت طفلا بداخل شاب أمامها، أتودد إليها وأقبلها".

 

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين