فلسطين أون لاين

في وداع "أمي" وعبور الجسر

...
يحيى اليعقوبي
غزة/ يحيى اليعقوبي:

أشتاق إلى ذاك الصباح الذي هجرني ولم يعد يتكرر؛ حينما كان وجه أمي يشرق قبل الشمس، وبما تمنحني إياه من دفءٍ، أكتفي بشمس "أمي" التي لا تغربُ، ولا تغيب عني، ذاك الصباح كان مختلفًا، به طقوسٌ ومراسم روتينية جميلة، تستيقظ أمي باكرًا لتعد كأس الشاي والفطور، ثم تفتح المذياع، وفي كل مرة، في التوقيت نفسه تبث الإذاعة الأنشودة نفسها: "فرش التراب يضمني وهو غطائي .. حولي الرمال تلفني بل من ورائي"، كلمات ما زالت تتركُ صداها في أذنَيّ منذ ثلاثة عشر عامًا.

كنت أكره مراسم الوداع، لأن الوداع خلق للغرباء لا لأحبة يستوطنون القلب، وبيني وبين نفسي كنت أنهال على تلك الإذاعة بالعتب، لكن لا بأس، كانت أمي تنصت لتلك الكلمات، تسرح في تفاصيلها، لا أدري ما الذي كانت تشعر به، وتتأمله، أما أنا فكنت أتأمل ملامحها "الملائكية"، وكان هذا اللقاء درسًا ترفدني به بالنصائح، وتعقد فيه آمالًا أخرى تنظر في فضاء المستقبل الواسع.

الغياب ثقيل على القلب يجثم على قلبي، اشتقت إلى رائحة أمي، وصوتها، وملامحها الملائكية، وضحكتها، ومناغشتي لها كل يوم؛ فهي ليست أمًّا فقط بل صديقة (نعم كنت أتجرأ على ذلك)، اشتقت إلى الدروس الصباحية، وكأنّي طالبٌ في بداية عهده الدراسي، توصيه والدته أنْ "لا تلعب مع الأشقياء، ومفتعلي المشاكل، إياك والتدخين"، ثم "إياك وإياك ..." وقائمة يطول ذكرها من النصائح والتوجيه، وكأنك، كنت تعرفين ماذا سيحدث معي، كثيرون اقتربوا مني وقدموا لي سيجارة مشتعلة من –باب التجربة- هكذا كانوا يدعون في كل مرة، لكن كنت أرى وأسمع كلماتك، وأرفض حتى لمسها، حتى إني صرت أعدها شيئًا من الموبقات، لا يمكنني الاقتراب منها تحت أي ظرف وتحت وطأة أي ضغط.

علمني رحيلك يا أمي أن القلوب لها ذنوب، وأن الراحلين كانوا يجرون طيفهم وأرواحهم ولحظاتهم الأخيرة دون أن ندري، أو نشعر، كانت لحظاتهم الأخيرة معنا مختلفة، فعلًا كنا نعيش مراسم وداع لا يمكن تفسيرها، باقتراب رحلة "اللا عودة"، ورحيل خاطف بلمح البصر، لتبقى الذكرى فقط، دون رائحة، دون دفء، ودون يدك الحانية.

أفقت على حزنٍ أكبر مني، تتلقفني نفحاته من كل جانبٍ، كلما حاولت الهروب منه، أعيشُ رحلة مطاردة، لا نهاية لها، وفي كل لحظة كنت أؤمن بحتمية المواجهة مع شعور حاولت الهروب منه، والنفاذ من قضبانه التي تحكم إغلاق أبواب الفرح، في حين ينهشني شعور القهر، وكأنني أسير ينتظر جلسة إعلان محاكمته وينتظره حكمٌ مؤبد لا يقاس بالسنين، بل بمسافة الفراق التي لا حدود فيها.

هنا، لا يوجد معانٍ تصف أدق تعبير للرحيل، مهما حاولنا ذلك، فهناك شعور داخلي لا يمكن وصفه بل شرب كأسه المريرة، بعد أن تتعلق بشخص ويكون أقرب الناس إليك ثم يرحل بلمح البصر ولا تراهُ كل صباح ومساء، هو شعورٌ بالفراغ، وإن حاول كثيرون ملأه.

أدركت أن الأماكن المقدسة لا تعوض يا أمي، وأن في القلب مقعدًا للأم محرمًا على غيرها، لا يمكنه قبول بديل لك، مهما حاولنا التقرب أو حاول هو التقرب منا، سيبقى المكان فارغًا إلى أن نلتقي، ليس هنا، بل في الأعلى، فوق السماء.

تمر بنا تجارب الفقد والفراق، كأقسى ما يواجه الإنسان في الحياة، عندها نستشعر الحقيقة التي أنشئت لأجلها الحياة، كوجود يقابل العدم، لا أحد باقٍ ولا أحد خالد هنا، نمر مرور العابرين الراحلين، وأوفرنا حظًّا من يترك أثرًا حيًّا في لحظة عبوره جسر الحياة.

المصدر / فلسطين أون لاين