تنتشر عدوى التطبيع بين العرب بشراسة تفوق شراسة عدوى كورونا، ذلك أن عدوى كورونا تنتشر بالتلامس أو باستنشاق الهواء الملوث بالفيروس، لكن عدوى التطبيع تنتقل بالإيهام العقلي أو تخاطر للفكر الخبيث، وذلك لا يحتاج إلى تقارب جسدي أو استنشاق هواء ملوث ولا يؤثر فيه علاج ولا يمنعه لقاح، ويبدو أنه لا عاصم من داء التطبيع إلا برحمة الله التي تهدي إلى سواء السبيل.
المغرب هو الدولة العربية التي تقع على الثغر الغربي الأقصى من بلاد العرب، وهي تبعد عن فلسطين آلاف الكيلو مترات، فتحها القائد عقبة ابن نافع وعلى شاطئها أقحم جواده في الماء وقال قولته المشهورة: "اللهم إني قد بلغت المجهود ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد سواك".
كانت المغرب بوابة فتح الأندلس على يد القائد الفذ طارق بن زياد، وقد سميت عاصمتها الرباط بهذا الاسم، لأنها كانت رباطًا للمجاهدين في سبيل الله وذلك في بداية عهد دولة الموحدين.
اليوم الرباط تطبع مع العدو الصهيوني وكأنها رباط أخرى غير الرباط التي نعرف، ولكن دعونا لا نظلم المدينة ولا نظلم تاريخها ولا نظلم شعبها، فهم جميعًا براء من هذا التطبيع الذي يفسد على الأمة معيشتها ويتنكر لتاريخها، ولا يستمرئه إلا من قام به من حكام، رغبة منهم في تثبيت ملك مهما طال الزمن فهو لا محالة زائل، ولا يبقى منه إلا السيرة التي لا تمحى من ذاكرة التاريخ.
يطبع المغرب اليوم مع العدو الصهيوني وهو الدولة التي كانت ترأس لجنة القدس إلى وقت قريب، فلا هي صانت عهد القدس ولا تركت الأمانة لغيرها، بل خانت الأمانة وهان عليها التاريخ المجيد الذي سطره قادة عظماء، بل وهان عليها دينها وشرفها، فأي رباط هذا الذي تتسمى به المدينة والعدو الصهيوني يصول ويجول في شوارعها وأزقتها وحاراتها وقصباتها وراياته ترفرف في سمائها؟
اليوم يتسابق العرب لبيع القدس في سوق النخاسة مقابل بعض من العطايا والمنح الأمريكية التي أعدت وغلفت في مكتب رئيس الوزراء الصهيوني، فهذه الدولة تطبع مقابل الحماية، وتلك تطبع مقابل الدعم الاقتصادي والسماح لها بعبور بوابة الرضا الأمريكي من خلال شطب اسمها من قائمة "الإرهاب"، وها هو المغرب يطبع من أجل الاعتراف بسيادته على الصحراء المغربية، ولنا أن نتوقع استمرار هذا المسلسل النكد بمساومة كل دولة على حاجتها أو رغبتها مع بعض من الترهيب الذي هو في جوهره ترهيب للحكم وليس للدولة فيكون التطبيع، ولا ندري إلى أين سيصل المزاد بين المطبعين.
يقدم حكام الدول المطبعة أو تلك الراغبة في التطبيع على جريمتهم دونما أدنى اعتبار لحق الشعب الفلسطيني، الذي ادعى قادة العرب يومًا أنهم حماته وسدنته، وفي أكثر من مرة في مراحل تاريخية مفصلية، ثم ما كان منهم إلا أن خانوا العهود والمواثيق وكشفوا ظهر الشعب الفلسطيني بعد أن أمن لهم، وما الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 منا ببعيد.
ويبدو أنه قد كتب على الشعب الفلسطيني أن يتلقى سهام الإخوة في ظهره وهو يقاتل عدوه بصدره العاري، فلا هم منعوه من عدوه ولا هم أمدوه بأسباب القوة، وحينما قرر أن يقاتل منفردًا نالته سهامهم دونما خجل من سيل الدم الذي يراق يوميًّا على أرض فلسطين والذي كان آخره دماء الفتى أبو عليا.
إن عدوى التطبيع التي تجتاح بلاد العرب هذه الأيام فيروسها الخيانة ولقاحها الكرامة والعزة، وهذا الأخير يسري غزيرًا في عروق الشعب الفلسطيني، فتراه يقاتل وحيدًا رغم كل الخيانات التي تحيط به من كل جانب، حتى أعجز عدوه وحطم غروره وكسر هيبته وتقدم واثقًا نحو النصر، ومن خلفه سيل من الدماء والشهداء والجرحى والأسرى، ولكن لا بأس فالنصر عزيز وثمنه غالٍ، ولم يصنع النصر العزيز في التاريخ إلا من تحت ركام الخيانات ومن رحم الآهات والدموع والدماء، ولا يحظى به إلا الأبطال الذين يبقى ذكرهم خالدًا ما دام هناك تاريخ يكتب، وما دام هناك حق ينصر، وما دام هناك باطل يزهق، وما دام هناك أمة تأبى أن تموت.