بعد حالة من الترقب وحبس الأنفاس, حسم الناخب الأمريكي مصير الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية وهذه المرة للمرشح الديمقراطي جو بايدن وهو السياسي المخضرم والذي وضع قدمه كأصغر سيناتور في مجلس الشيوخ قبل أربعين عامًا, فهل سيكون بايدن امتداد لسياسة سلفة الديمقراطي باراك أوباما الخارجية في العديد من القضايا الدولية والإقليمية أم سيكون له توجهات جديدة.
فقد كانت أبرز محطات أوباما في سياسته الخارجية هو الاتفاق النووي مع إيران والذي أثار غضب وحفيظة دول خليجية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية, اضافة للعديد من القضايا الإقليمية والدولية التي كانت مثار جدل خلال فترة إدارته.
لكن المعلوم أن الفكر الاستراتيجي الأمريكي بشكل عام تقوده مراكز البحوث المختصة في السياسة الأمنية والاستراتيجية والتي كانت تعتبر الإطار النظري للتفكير الاستراتيجي الأمريكي, ففي عهد أوباما مثلا صدرت وثيقة استراتيجية الاستخبارات القومية 2009 ووثيقة المراجعة الدفاعية فيفري 2010, وهي الفترة التي كان بايدن فيها نائبا للرئيس السابق باراك أوباما, مما يعطي مؤشر على أن السلوك السياسي لكل من أوباما وبايدن متقارب.
فهل سيضع بايدن بصماته السياسية كرئيس منتخب أمضي أربعين عاما من عمره في الحياة السياسية في العديد من القضايا, فالكثير من العواصم العالمية تترقب وتنتظر بل وتبني سياساتها على إيقاع وتطورات ومتغيرات البيت الأبيض والعاصمة واشنطن وترقب التحولات ومن هو رجل أمريكا الأول.
فمن أبرز الملفات التي تنتظر بايدن هو الملف النووي الإيراني والذي سيحاول أن يعيد الاعتبار له بما يعرف بــ مجموعة (5 + 1) والذي سيحاول من خلاله أن يمنع التصعيد ويُوجد حالة من الاستقرار في المنطقة من خلال احتواء إيران وتقييد طموحاتها النووية والحد من نفوذها في إطار حسابات دقيقة جدا وطمأنة الحلفاء الاستراتيجيين لأمريكا وعلى رأسهم (إسرائيل) والمملكة العربية السعودية الذين يعتبرون الاتفاق النووي هو تهديد استراتيجي ووجودي لهم, حيث الواقع الجيوسياسي والخلل في توازن القوى في منطقة الخليج العربي سمح لإيران بالتمدد من خلال أذرعها في العديد من الدول وأهمها العراق واليمن وسوريا ولبنان, فالمؤكد أن بايدن سينتهج نهجًا مغايرًا تمامًا لسلفه الجمهوري ترامب في التعامل مع العديد من القضايا وتحديدًا الملف الإيراني ولكن الحسابات السياسية ستكون شديدة الحساسية والمتمثلة في الحفاظ على حالة الردع مع إيران, والأخذ في عين الاعتبار التخوفات الإسرائيلية وبعض الدول العربية من خطر امتلاك إيران أسلحة غير تقليدية, وفي المقابل المتوقع أن تشهد العلاقة الأمريكية السعودية فتورًا في حال تم الاتفاق مع إيران في الملف النووي كما حدث فترة إدارة أوباما, وكذلك من المتوقع أن تفتح إدارة بايدن العديد من الملفات الساخنة المتعلقة بالمنطقة الخليجية والعربية مثل ملف الصحفي خاشقجي والمعتقلين السياسيين والديمقراطية والإسلام السياسي والحرب في اليمن وسوريا والملف الليبي والتلويح بقانون جاستا, وكذلك الضغط في تجاه التقارب الخليجي فأولويات بايدن المتوقعة هي اتمام المصالحة الخليجية في إطار الحفاظ على ركائز الأمن والاستقرار ومنع استخدام القوة بين دول الخليج, فهل هذا التباين والاختلاف في الفهم والتوجهات في العديد من القضايا بين أمريكا وبعض الدول الخليجية والعربية سيخرج إلى العلن أم تعالج في الأطر الدبلوماسية الهادئة.
أما على صعيد الملف الفلسطيني حيث تدهورت العلاقات الأمريكية الفلسطينية بسبب سياسة ترامب غير المسبوقة والتي مثلت انحيازًا كاملًا وواضحًا لـ(إسرائيل) تمثلت في نقل السفارة لمدينة القدس ومنح غطاء لتوسيع وضم المستوطنات في الضفة الغربية ووقف كل أشكال الدعم المالي عن الفلسطينيين سواء للسلطة مباشرة أو للمؤسسات الدولية العاملة في مناطقها, والضغط على الدول العربية للتطبيع مع (إسرائيل) متجاوزين المبادرة العربية للسلام, مما دفع السلطة لاتخاذ قرارات وإجراءات للتعامل مع أمريكا وكذلك وقف التنسيق الأمني مع (إسرائيل) والاتجاه نحو التوافق وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي.
ولكن مع فوز بايدن الديمقراطي بدأت السلطة الفلسطينية بالاستجابة للمتغيرات السياسية التي فرضتها نتائج الانتخابات وأعادت الاعتبار للاتصالات الطبيعية مع أمريكا وتم العودة للتنسيق الأمني وتراجعت المصالحة والتوافق الفلسطيني, فبايدن وإدارته سيشجعون الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وسيعارضون بشدة المصالحة والتوافق بين السلطة وحركة حماس، بل لا يستبعد أن تعطي أمريكا الضوء الأخضر لـ(إسرائيل) للتصعيد تجاه غزة مقابل تنشيط مسار المفاوضات, والتقدم في بعض الملفات غير الجوهرية.
فوزير الخارجية الأمريكي الجديد، انطوني لينكن، كان من المؤيدين لجميع الحروب الإسرائيلية على غزة, في المقابل بايدن وإدارته لم يتخذوا أي خطوات أو إجراءات جديدة قد تستفز السلطة الفلسطينية وستكتفي بالبقاء على الحالة المتقدمة التي أحدثتها إدارة ترامب في نقل السفارة للقدس وتوسيع المستوطنات وضمها, ومن غير المتوقع أن تقوم السلطة أو أن تستطيع أن تحدث أي تغيرات في الواقع الميداني المفروض على الأرض فترة ترامب الا في إطار الاعتراضات والاحتجاجات السياسية فأدوات الصراع بين السلطة و(إسرائيل) ستبقي في أطرها المعروفة كما هي، وستسعي أمريكا في تجاه التعايش لا التباين بين الطرفين واستمرار اللقاءات والمفاوضات بينهما, وخاصة الجميع بات يدرك أن البوابة المهمة والرئيسة لاستمرار التطبيع وتوسيع دُوَله سيكون من البوابة والرضا الفلسطيني المتمثل في السلطة الفلسطينية وارضاءها في مقابل زيادة الضغط على قوى المعارضة الفلسطينية المتمثل في حماس والجهاد, والضغط باتجاه عدم نجاح أي مسار للمصالحة الفلسطينية الداخلية.
ومن المتوقع أن السياسية الخارجية الأمريكية في فترة بايدن ستتجه للاستدارة نحو دول آسيا لاحتواء الصين والعمل على تقوية الحضور الأمريكي في بحر الصين, وكذلك تعزيز الموقف الأوروبي المناوئ لروسيا والداعم للديمقراطية في أوروبا الشرقية, وكذلك العودة إلى اتفاق باريس للمناخ وانفتاح أمريكا على قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية, وليس مستبعدا أن تسعي إدارة بايدن للتراجع من اعتمادها على النفط الخليجي لصالح النفط الصخري الأمريكي وهذا إن حدث سيفقد دول الخليج وعلى رأسها السعودية ورقة ضغط من أوراق قوتها الناعمة.
وبناءً عليه ووفق هذه التحديات والملفات الساخنة التي ستواجه إدارة الرئيس بايدن ستعتمد السياسة الخارجية الأمريكية على الدمج بين مفهومي القوة الصلبة والقوة الناعمة وهو ما يعرف بالقوة الذكية.
فبايدن سيكون أمام تحدٍّ وهو المحافظة على أمن وهيبة وقوة أمريكا دون أن تكون أمريكا شرطي العالم وتستنزف في ذلك وكذلك عدم وضع أمريكا في حالة من العزلة والانكفاء, خاصة في ظل حالة عدم الاستقرار في الحالة البنيوية للنظام العالمي في اطار الصعود والهبوط لدول وقوى وتكتلات عالمية.