قد يكون أهم ما نتج عن اجتماع الأمناء العامين في بيروت-رام الله مطلع سبتمبر الماضي هو الاتفاق على أهمية تفعيل المقاومة الشعبية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته، وهذا يأتي -ضمنًا- في سياق مواجهة وَهْم التطبيع العربي مع العدو الذي لا يزال الشعب الفلسطيني يقاومه منذ أكثر من سبعة عقود. لم تقف المقاومة عند القول بل سارعت إلى تشكيل "القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية" والإعلان عنها بعد عشرة أيام فقط في بيان وُزِّع على نطاق واسع، رغم أنه لم يحمل أسماء الفصائل الفلسطينية المنضوية تحتها! لكن -في ذلك الوقت- حظي البيان بكامل التغطية الإعلامية من كل الفصائل بما فيها حركتا حماس وفتح.
ومن أجل تحويل الفكرة والبيان إلى إجراءات حقيقية تم الاتفاق في لقاءات متعاقبة للفصائل الفلسطينية على تشكيل قيادة سباعية لهذه المقاومة الشعبية في الأقاليم الثلاثة للتواجد الشعبي الفلسطيني (قطاع غزة، الضفة الغربية، مخيمات اللجوء)، على أن تضم تلك القيادة ممثلين عن فتح وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والمبادرة الوطنية إضافة إلى ممثل عن المستقلين، على أن تكون مرجعيتَها الأمناء العامون.
فهل ذهب كل ذلك أدراج الرياح وتلاشى الحلم الوطني باستعادة روح المقاومة والنضال بدلًا من التنسيق الأمني ومظاهر الرضوخ لإملاءات الاحتلال؟ هل أصبحت إرادة التنسيق الأمني أقوى من إرادة المقاومة؟! لا يزال الشعب الفلسطيني يمثل نموذجًا يحتذى به في الثورة والانتفاضة لدى كل الشعوب العربية والعجمية، ولا تزال صورة الفلسطيني الأشهر وهو يقاوم الاحتلال بالحجر والسكين والمولوتوف. وإذا كانت المقاومة الشعبية التي تمثل حالة رفض شعبي للاحتلال وإجراءاته ضد الحقوق الفلسطينية (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) هي الشكل الأدنى المتفق عليه لدى الفصائل الفلسطينية بالذات في الضفة الغربية، التي يدرك الجميع أن السلطة بتنسيقها الأمني لن تسمح لها بالعمل والتأثير في الاحتلال ومصالحه.
وهنا لا بد من التذكير أن أي مقاومة (شعبية أو مسلحة) لا يمكنها أن تأخذ إذنًا من الاحتلال أو من يوفر له مصالحه الأمنية، فهما نقيضان كاملان، ولا يمكن أن تتعايش المقاومة مع التنسيق الأمني كما لا يمكن أن تتعايش الحرية مع الاحتلال. وما دام الشعب الفلسطيني لا يزال تحت الاحتلال الذي يمارس جرائمه اليومية ضد الأرض والإنسان والمقدسات، فإن المقاومة ستبقى خيار الشعب الفلسطيني الذي لا يقبل أن تُسرق أرضه ويقتل أبناؤه وتدنس مقدساته بصمت، والمقاومة الشعبية تشمل كل فعل شعبي –أكان فرديًّا أو جماعيًّا- يدافع عن الحقوق الوطنية والإنسانية أمام العدوان الإسرائيلي.
يجب أن تبقى المقاومة الشعبية حاضرة في الحوار الفلسطيني والتفكير الوطني، فهي قادرة على تحقيق ما قد يعجز عنه أي فعل آخر، وتملك قوة الدعم اللازمة لأي نشاط سياسي أو مقاومة مسلحة. فهي قادرة على:
استنزاف الاحتلال ميدانيًّا (أمنيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا).
خلق بيئة وطنية تؤمن بالشراكة الفعلية في مواجهة الاحتلال وتناقضاته.
تعزيز الوعي الوطني بالتضحية اللازمة للحرية والاستقلال.
ولا شك أن نجاح المقاومة الشعبية في الحالة الفلسطينية، تحتاج إلى تحقيق متطلبات تناسب واقع وجود السلطة والمؤسسات الحكومية والأهلية بالتنسيق مع الفصائل الفلسطينية بما يضمن:
توفير الغطاء السياسي والأمني الكامل للفعل المقاوم.
عزل الأنشطة الميدانية الشعبية عن الأشكال العسكرية لضمان حمايتها واستمراريتها.
منحها أولوية وطنية في قطاعات الخدمات الحكومية والشعبية كالصحة والتعليم والثقافة.
تحريرها من الالتزامات الناتجة عن أوسلو والتنسيق الأمني مع الاحتلال.
تخصيص صندوق دعم الأفراد والمؤسسات المتضررين من اعتداءات الاحتلال وإجراءاته ضد الفعل المقاوم.
تصدير قيادات شبابية ميدانية تستطيع أن تضمن الديمومة الثورية.
لا أحد يجادل في موت أوسلو وخيارات التسوية اعتمادًا على فشلها الذاتي في تحقيق ما وعدت به من الانتقال بعد خمس سنوات (1994-1999) إلى دولة مستقلة وعاصمتها القدس، إضافة إلى إخفاقها في ترسيخ تجربة الحكم والتداول السلمي للسلطة، بل وتعارضها مع أهداف الشعب الفلسطيني وثورته. إضافة إلى 14 عامًا من إدارة الانقسام الفلسطيني على مبدأ المراوحة لكسب الوقت إلى حين تحسن الظروف السياسية والإقليمية لتخدم مشروع التسوية. لكن ما وصلت إليه الحالة هو خيبة أمل وطنية من فشل كل التفاهمات الفلسطينية والاتفاقيات الفصائلية بسبب انحياز السلطة وحركة فتح دائمًا إلى التنسيق الأمني وتعمدها الدائم بمخالفة الإجماع الوطني، والسير في مسار يتناقض مع المطالب الوطنية التي تعتمد على مبدأ الثورة لتحقيق الحرية، والثورة تشمل بالضرورة المقاومة الشعبية.