فلسطين أون لاين

"إسماعيل الخطيب".. 86 عامًا استحق معها لقب "عميد الحلاقين" بغزة

...
تصوير/ محمود أبو حصيرة
غزة- يحيى اليعقوبي:

ترفع هامته قبعة بيضاء، في حين تتقاطع شقوق يديه التي وهن تماسكها مع مقبض عكاز يرتكز عليه، يتوارى خلف باب محله الزجاجي، يشاهد جمال السماء المتلبدة بالغيوم وهي تسكب زخاتها، وتحديدًا المكان الذي يوجد به في سوق "فراس" بمدينة غزة، يتأمل مشاهد كثيرة أمامه: شابًّا يركض هربًا من المياه، وجيرانه وهم يشعلون موقد نارٍ لينالوا دفئًا، وأصوات المطر وهي تتساقط على ألواح الزينقو لتعزف سيمفونية ولحنًا عذبًا يطرب المتأملين أمثاله، وشارد ذهن يتأمل أشياء أخرى.

من في المشهد هو إسماعيل الخطيب الذي طرق الـ86 عامًا ولا يزال يحافظ على مهنته (الحلاقة)، فاستحق لقب "العميد"، من نقابة الحلاقين، مطبوعًا على لوحة ورقية أهدتها لها تقابلك في صدر محله، تكريمًا لـ73 عامًا أمضاها في المهنة بلا "كلل أو ملل".

"العميد" الذي يكنى "أبا هاني" ترسم شقوق وجهه ويديه حكاية عمرها سبعة عقود في الحلاقة، يمشي بخطواتٍ متثاقلة قدمًا تجر الأخرى، يضع عكازه جانبًا ويسند يدًا على كرسي الحلاقة؛ يحكم الإمساك به كي لا يسقط، فبصعوبة يستطيع الوقوف، وباليد الأخرى يمرر الماكينة الكهربائية على ما تبقى من شعر مسن آخر.

يقرب الماكينة من رأس الوافد الجديد، تتراقص يداه الراجفتان بحكم العمر وتهتز قبل أن تمضي طريقها في قص شعر الزبون، يبكي على أطلال ذكريات أيام الشباب حينما كان محله يعج بزبائن يملؤون محله ويصطفون في الخارج، مشهد تلاشى؛ فتلك الكراسي البلاستيكية الخضراء شبه خاوية إلا من بعض الزبائن وهم من كبار السن الذين عاشوا مع "أبي هاني" مراحل عمرية مختلفة، يأتونه من باب "العشرة والصداقة والاحترام" له.

رغم تقدمه في العمر لا يستطيع ترك مهنة أمضى فيها جل عمره، ورثها عن والده الذي ورثها بدوره عن جده قبل النكبة، ثم هاجر مع عائلته إلى قطاع غزة، وأكمل المسيرة التي ورَّثها أيضًا ابنه محمد الذي حضر حديثنا، مرت كل مراحله العمرية بمهنة الحلاقة، منذ أن كان فتى يساعد والده، ثم شابًّا يعتمد على نفسه، واشتد عوده وعرفه كل أهل السوق، ثم انتصف العمر قبل أن يدخل الخمسينات والستينات والسبعينات ويكمل الثمانينات، لم يتخلَّ عنها ولم تتخلَّ عنه.

ليست مجرد مهنة فحسب

يعيد تقليب شريط الذكريات، يراجع صفحاته المنسية، تمر بين شقوق يديه رحلة طويلة في المهنة، قائلًا لصحيفة "فلسطين": "هجرتنا العصابات الصهيونية من قرية كرتيا في أثناء النكبة سنة 1948م، فمكثنا بالمجدل أربعة أشهر وكان أبي حلاقًا، ثم هُجرنا إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، ومكثنا أربعة أشهر أخرى وكان الوضع صعبًا، "لا قرش يصرف ولا وجه يعرف"، ثم جئنا إلى مدينة غزة".

لم يُذهب مرور العمر مشاهد ومعاناة البدايات التي حضرت حديثه هنا: "لم أتجاوز من عمري 15 عامًا حينما كنت أساعد أبي، وكنا نحلق في السوق على الأرصفة والشوارع".

وقبل أن يكمل حديثه وخز مفصله الألم، وأخرج من ذاكرته مشهدًا عمره خمسة عقود وصوت المطر في الخارج يتواصل: "عاش الناس بفقر كبير بعد التهجير القسري، أذكر أننا كنا ننادي: "تعالَ بقرش، أو رغيف، أو بيضة".

"كنا نمسك الواحد مسك عشان يحلق، بعد هيك فتحت المدارس، وصار في توظيف وتعليم بمصر وصارت الناس تاكل وتشرب" مشهد لا يفر من تفاصيل حياته.

في ذاك الوقت لم تنتشر تصفيفات شعر معينة، وأغلب زبائن العم "أبي هاني" كانوا يطلبون قص الشعر على "نمرة صفر"، أطلق معها قهقهة طويلة برز معها ما تبقى من أسنانه، ورسم ابتسامة اختفت معالمها بين تجاعيد وجهه: "بعد 20 سنة صار موديلات زي الفنانين المصريين".

يضرب بعكازه الأرض وهو يجلس على الكرسي، يعاهد مهنته: "هي مهنة أبي وأجدادي، بقيت مستمرًّا ومتمسكًا بها، وأصبح هناك عمل".

ارتباط متجذر

في الخلف أثاث محل عمره 50 عامًا، وكذلك كرسيا حلاقة قديمان، شاهدان على حكاية كتبها "أبو هاني" على دفتر الوفاء، وغرسها بقلبه ووجدانه، ورواها من ذكريات والده وجده، وكما للإنسان شقوق تشير إلى تقدم العمر لهذه الأخشاب قشور قد غادرت أمكنتها بمرور الزمن، وتركت رقعًا متعددة في هذا الأثاث، يحافظ على تماسكه كما يحافظ صاحبنا على ارتباطه بـ"الحلاقة".

التفت أبو هاني إليه، مثل الذي يلتفت إلى صديق حميم، تبسم صوته وملامح وجهه: "هذا الطقم اشتريته في 1967م، بثمن زهيد (مقداره 12 جنيهًا)، وإلى اليوم أتمسك بالحلاقة لأنه لا يوجد لي مهنة أخرى".

"حاليًّا العمل ضعيف، لا أكاد أحصِّل 10 شواقل يوميًّا، فقد ضعف العمل، بفعل أزمة كورونا وضعف حال الأسواق، وحال الناس في تراجع"، حالٌ ألقى بظلاله على حياة أبي هاني، كما ألقى عمره المتقدم ظلاله عليه؛ فلم يعد "مرغوبًا لدى الشباب".

لا يخفي هذه الحقيقة، وفي صوته حسرة اختفت بين ثنايا كلماته لم يبح بها: "الشباب بدوروا على الموديل الجديد من القصات، وأنا رجل كبير بالمهنة مش مرغوب فيّ (...) قاعد الآن بتسلى تسالي".

وكأنَّ الحلاقة تؤنس عمر "أبي هاني"، لا يزال كل يوم يأتي الساعة السابعة صباحًا ويغادر مع رحيل الشمس، يرحل هو كذلك عن مكان ارتبط به عمرًا، لا يقوى على مفارقته والجلوس بالبيت والتقاعد، فما بينه وبين المهنة أكبر من العمل ذاته، لأنها حياته، وذكرياته، وروحه التي يتنفس ويعشق، كلما جلس في البيت غلبه الشوق إلى هذا المكان القديم، المليء بالذكريات.

ضحك: "بعرفش أقعد بالدار، عندي أحفاد وسبعة أولاد".

تتجه نظراته نحو ابنه محمد قائلًا: "يساعدني ابني حينما يأتي زبون صغير بالسن، وهو الوحيد من أولادي الذي أورثته المهنة، والبقية تعلموا مهنًا أخرى (...) أما أنا فقد كبرت وأصبحوا يطلقون علي لقب العميد لأني أكبر وأقدم حلاق أعمل بالمهنة".

اليوم جاء زبونان كبيران بالسن إلى أبي هاني، ملامح الرضا لم تفارق وجهه وكلمات الحمد سبقت صوته: "الكبار -خاصة في سن الـ60 فما فوق- يحبون أن يحلق لهم من هو من جيلهم نفسه، فلا تكون عملية تصفيف فقط، بل مراجعة ذكريات الطفولة والشباب وقراءة في الواقع وأحوال الناس".

رفيقة قديمة وأخرى جديدة

نهض أبو هاني عن كرسيه، مشى عدة خطوات مرتكزًا على عكازه منحني الظهر، فتح درجًا تملؤه عدة ماكينات حلاقة يدوية قديمة، تعلو وجهه ابتسامة فيها مسيرة طويلة من العمل معلقًا: "ربما قبل 15 عامًا فقط بدأت استخدام الماكينة الكهربائية التي سهلت العمل".

ما إن أمسك واحدة ووضع ذراعيها في قبضة يده، وهو يضغط عليها بسرعة بدأت الأسنان تتحرك، وكأنه يضم شيئًا عزيزًا عليه، لم ينسَ فضلها: "بيننا عشرة عمر، وكانت مصدر رزقنا (...) كنا نسنن مشطها الحديدي حتى تستطيع قص الشعر".

في هذا المحل جاء من يصفهم بـ"كبار القوم في غزة وشخصيات رفيعة"، وسلموا رؤوسهم ليدي أبي هاني ليتفنن بها، يحفظ أسماء بعضهم أو أسماء عائلاتهم.

لم يكن أبو هاني الحلاق الوحيد في سوق فراس قديمًا، وكان ينافسه خمسة حلاقين، إلا أن محله لم يخلُ من طابور الزبائن، أما اليوم فهو الوحيد هنا، ولا يكاد يزوره شخص أو اثنان، يحتاج إلى الدخل للإنفاق على أبنائه الذين تقطعت به السبل وأصبحت مهنهم "غير مجدية كثيرًا"، كانت الحلاقة وفية له، فمنها بنى عمارة سكنية من أربعة طوابق وثماني شقق، زوج أولاده السبعة، ولا يزال ينفق عليهم وهو بهذه السن.

لكن لكل شيء ثمن، والثمن من صحته: "سببت لي هشاشة عظام بالركب، دفعت ضريبة المهنة والوقفة الطويلة، لكني مرتاح أني بنيت مستقبل أبنائي، مضيت عمري وأنا واقف أعمل"، وخزته قدمه مرة أخرى، شد وجهه متألمًا قليلًا، معترفًا بعفوية: "مش قادر على الشغل، بس باجي أطير زهقي ونترزق من اللي ببعته ربنا".

تعلم أبو هاني من مهنته أن الصدق والاحترام والتقدير، والطيبة "واللسان الحلو" الرطب بالكلام الجميل مفتاح الرزق، غادرناه ودعواته ترافقنا، وابتسامته كذلك، وعاد إلى مشهده السابق في تأمل المطر المتساقط منذ ساعة على وصولنا الساعة الواحدة ظهرًا.